في فاجعة جديدة تفضح هشاشة منظومة الأمان على طرق "الجمهورية الجديدة"، استيقظ أهالي مركز البدرشين صباح اليوم، الاثنين 29 ديسمبر 2025، على كارثة مروعة راحت ضحيتها أرواح ثلاثة مواطنين غرقًا في ترعة المريوطية. الحادث لم يكن مجرد انقلاب سيارة "ميكروباص" نتيجة السرعة أو اختلال عجلة القيادة كما تحاول الرواية الرسمية تصويره، بل تحول إلى مأساة إنسانية تعكس غياب الدولة وحضور "الشهامة الشعبية" التي دفع ضريبتها شاب مصري بحياته، بينما تقف الحكومة موقف المتفرج أمام "ترع الموت" التي تبتلع الغلابة يوميًا بلا حواجز أو رقابة.
بدأت المأساة حينما انحرفت سيارة ميكروباص يستقلها شخصان عن مسارها على طريق المريوطية بالبدرشين، لتسقط في مياه الترعة العميقة. وفي مشهد يلخص حال المصريين الذين لا يجدون من ينجدهم سوى بعضهم البعض، تصادف مرور شاب شهم يدعى "سامح أحمد منصور"، كان يقود أتوبيسًا خاصًا بعمله. لم يتردد "سامح" لحظة، ولم ينتظر "الإنقاذ النهري" الذي غالبًا ما يأتي متأخرًا، بل قفز بملابسه في المياه الباردة والملوثة محاولًا انتشال العالقين في السيارة الغارقة، لكن القدر كان أسرع، ليبتلع الموت الثلاثة معًا (الراكبين والمنقذ)، وتطفو جثثهم شاهدة على طريق يفتقر لأبسط قواعد الحياة.
"سامح منصور".. بطل خذلته دولة الإهمال
قصة الشاب "سامح" ليست مجرد تفصيل جانبي، بل هي "متن" الحكاية وإدانتها الصارخة للنظام. هذا الشاب الذي ضحى بروحه ليس مسؤولًا حكوميًا يتقاضى الملايين، بل مواطن بسيط تحركت فيه النخوة التي ماتت في مكاتب المسؤولين. استشهاد "سامح" غرقًا وهو يحاول إنقاذ ركاب الميكروباص يضع حكومة الانقلاب في قفص الاتهام: لو كانت هناك فرق إنقاذ متمركزة، أو حواجز خرسانية تمنع السقوط، أو طريق ممهد وآمن، لما اضطر هذا الشاب لإلقاء نفسه في التهلكة، ولما تيتمت أسرته اليوم. إن دماء "سامح" ومن حاول إنقاذهم في رقبة كل مسؤول ترك طريق المريوطية يتحول إلى مصيدة مفتوحة.
المريوطية.. مقبرة السيارات في غياب "الجمهورية الجديدة"
تكشف شهادات شهود العيان الذين حضروا الواقعة عن تفاصيل مؤلمة؛ فالسيارة الميكروباص "طارت" من الطريق إلى المياه مباشرة بسبب عدم وجود أي سواتر حماية حقيقية في هذه المنطقة الخطرة بمركز البدرشين. ورغم وصول قوة أمنية ورجال الإنقاذ لاحقًا لانتشال الجثث الثلاثة واستخراج الحطام، إلا أن هذا التحرك "الروتيني" لا يمحو حقيقة أن البنية التحتية في المناطق الشعبية والريفية تعيش خارج الزمن. بينما تتفاخر السلطة بالمدن الذكية والقطارات السريعة، يموت المواطنون في الجيزة والصعيد لأن "عجلة القيادة اختلت" على طريق غير مجهز لاستيعاب الخطأ البشري، وكأن الخطأ عقوبته الإعدام غرقًا.
التملص من المسؤولية.. شماعة "السرعة الزائدة"
كعادتها، سارعت التحريات الأولية لإلقاء اللوم على "السرعة الزائدة" للسائق، في محاولة بائسة لتبرئة ساحة الإدارة المحلية وهيئة الطرق. لكن الحقيقة التي يعرفها كل من يسير على طريق المريوطية-البدرشين هي أن الطريق نفسه "شريك في الجريمة"؛ بضيقه، وظلامه، وحوافه الملاصقة للمياه دون تدعيم. إن استسهال اتهام الضحايا هو النهج الثابت لنظام لا يرى في المواطن سوى "رقم" يمكن شطبه، ولا يرى في الطرق سوى "سبوبة" لتحصيل "الكارتة" والمخالفات، دون تقديم خدمة أمان حقيقية توازي ما يدفعه الشعب من دمائه وأمواله.
2025.. عام "الغرق الأسفلتي" في ترع مصر
لم تكن فاجعة اليوم في البدرشين استثناءً، بل حلقة في سلسلة دموية ميزت عام 2025، الذي شهد ارتفاعًا مرعبًا في حوادث سقوط المركبات في الترع، خاصة على محور المريوطية:
• يناير 2025: شهد سقوط سيارة في نفس الترعة (المريوطية)، واضطرت الضفادع البشرية للتدخل للبحث عن ناجين في ظروف قاسية، في إنذار مبكر لم تنتبه له الحكومة.
• مارس 2025: أنقذت العناية الإلهية وتدخل الأهالي ركاب سيارة ملاكي سقطت في الترعة قرب "منطقة المثلث"، في تكرار لسيناريو غياب الأمان.
• مايو 2025: سجلت الترعة حادثًا آخر بسقوط سيارة ونجاة شخصين، بينما استمر البحث عن مفقودين لساعات طويلة، مما عكس بطء منظومة الإنقاذ.
• أغسطس 2025: شهدت منطقة "المنوات" (القريبة من موقع حادث اليوم) سقوط ميكروباص آخر، وتم انتشال 7 أشخاص مصابين، في واقعة كانت تستلزم حلًا هندسيًا فوريًا لم يحدث.
• أكتوبر 2025: كان الشهر الأسوأ، حيث ابتلعت الترعة سيارتين في أقل من 48 ساعة منتصف الشهر، وخرج السائقون من الموت بأعجوبة، لكن الحكومة لم تتعظ.
• 29 ديسمبر 2025 (اليوم): تختتم السنة دفتر أحزانها بهذه الكارثة التي أودت بحياة 3 أشخاص، بينهم "سامح منصور"، شهيد الشهامة الذي مات ليحيا ضمير أمة، بينما ضمير مسؤوليها في إجازة مفتوحة.

