في جريمة جديدة تضاف لسجل تخريب الاقتصاد الوطني، يواجه القطن المصري، الذي كان يوماً تاج الزراعة المصرية ورمز جودتها العالمية، خطر الاندثار الفعلي تحت وطأة سياسات التدمير الممنهج التي ينتهجها نظام عبد الفتاح السيسي.
فبعد سنوات من الإهمال وتقليص المساحات، جاء قرار تعليق صادرات القطن لموسم 2024 ليعلن رسمياً وفاة "الذهب الأبيض" كسلعة استراتيجية، ويحوله إلى محصول هامشي يكافح الفلاحون لزراعته وسط خسائر فادحة، بينما تقف الحكومة موقف المتفرج، بل والمشارك في ذبح هذا القطاع الحيوي لصالح مافيا الاستيراد وتجار الأزمات.
إن الأرقام الكارثية التي تكشف تراجع الإنتاج بنسبة 36% في عام واحد، وهبوط المساحات المزروعة إلى مستويات تاريخية متدنية، ليست نتاج "تغيرات مناخية" كما تدعي الأبواق الرسمية، بل هي حصاد مر لسياسات زراعية فاشلة تتعمد تهميش الفلاح، وتدمير البنية الإنتاجية للريف المصري، لتحويل مصر من دولة منتجة ومصدرة لأجود أقطان العالم إلى دولة متسولة تستورد الملابس والأقمشة الرديئة.
مجزرة "السعر الظالم": كيف أفقرت الحكومة الفلاح؟
تكمن الكارثة الحقيقية في "حرب الأسعار" التي تشنها الحكومة ضد الفلاح.
فبينما تقفز أسعار مستلزمات الإنتاج من أسمدة وتقاوي وسولار وعمالة بنسب تتجاوز 200%، تصر الحكومة على فرض "سعر ضمان" هزيل (5500 جنيه للقنطار) لا يغطي حتى تكلفة الزراعة، في وقت يُباع فيه القطن المصري في المزادات العالمية بأسعار فلكية تتجاوز 18 ألف جنيه.
يعلق الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية والأراضي بجامعة القاهرة، على هذا الوضع واصفاً إياه بـ"السرقة المقننة".
ويؤكد نور الدين أن "الحكومة تعامل الفلاح المصري كأجير بالسخرة، تجبره على التوريد بسعر بخس لتغطي فشل مصانع الغزل والنسيج الحكومية المتهالكة، بينما تترك شركات القطاع الخاص والوسطاء ينهبون فرق السعر.
عزوف الفلاحين عن زراعة القطن هو رد فعل طبيعي لسياسة 'تخسير' ممنهجة، فالفلاح ليس غبياً ليزرع محصولاً يخرجه مديوناً في نهاية الموسم."
ويضيف حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، أن "تخلي الدولة عن دعم الفلاح في مكافحة الآفات وتوفير التقاوي الجيدة، وترك السوق نهباً للمحتكرين، هو السبب الرئيسي في انهيار المحصول. الحكومة دمرت الدورة الزراعية، وجعلت زراعة القطن مغامرة غير محسوبة العواقب، مما دفع المزارعين للهروب إلى محاصيل أخرى أكثر ربحية وأقل تكلفة."
تقليص المساحات: مخطط "تجفيف المنابع"
تشير البيانات الرسمية إلى تراجع كارثي في المساحات المنزرعة بالقطن من 337 ألف فدان إلى 254 ألف فدان في عام واحد فقط. هذا التقلص ليس عشوائياً، بل هو نتيجة مباشرة لغياب الرؤية الاستراتيجية. فبدلاً من التوسع في زراعة المحاصيل الاستراتيجية لتوفير العملة الصعبة، تنشغل الدولة بمشاريع "اللاند سكيب" والمدن الصحراوية التي تستهلك المياه دون عائد إنتاجي.
وفي هذا السياق، يحذر الدكتور عبد التواب بركات، مستشار وزير التموين الأسبق، من أن "مصر تفقد ميزتها النسبية الوحيدة في السوق العالمية. القطن طويل التيلة كان 'بترول مصر' الذي يطلب بالاسم في بورصات العالم.
سياسات السيسي حولت مصر من مصدر رئيسي إلى مستورد للقطن قصير التيلة الرديء لتشغيل المصانع، في مفارقة مضحكة مبكية. نحن ندمر أصولنا الوراثية التاريخية من أصناف (جيزة) لصالح أصناف مستوردة، في خطوة تهدد الأمن القومي الزراعي في الصميم."
تدمير الصناعة الوطنية: من "المحلة الكبرى" إلى "الخرابة الكبرى"
لم يتوقف التدمير عند الحقول، بل امتد للمصانع. فقرار تقييد الصادرات وحصرها في كميات هزيلة (40 ألف طن) بدعوى توفير المادة الخام للمصانع المحلية، هو "كلمة حق يراد بها باطل". فالمصانع الحكومية التي تم إنفاق المليارات على تطويرها (نظرياً) لا تزال عاجزة عن استيعاب وتصنيع القطن طويل التيلة بكفاءة، وتفضل استيراد القطن الرخيص.
يرى الدكتور جمال صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، أن "القرار الأخير بوقف التصدير هو رصاصة الرحمة على ما تبقى من سمعة القطن المصري خارجياً. المصدرون سيفقدون أسواقهم التقليدية لصالح المنافسين (مثل القطن الأمريكي والبيما)، ولن يعودوا إليها بسهولة.
الحكومة تدير الملف بعشوائية مفرطة؛ تارة تفتح التصدير وتارة تمنعه، مما يخلق حالة عدم يقين تدفع المزارع والمستثمر للهروب. نحن أمام منظومة فاشلة تدير ثروة قومية بعقلية 'البقال'، والنتيجة هي خسارة مزدوجة: ضياع الدولار من التصدير، وانهيار الصناعة المحلية التي لا تجد خامة جيدة."
في المحصلة، يبدو أن نظام السيسي قد نجح فيما عجز عنه الاحتلال والمنافسون: القضاء على أسطورة القطن المصري. فبينما كان الرئيس الشهيد محمد مرسي يشارك الفلاحين حصادهم ويعلي من قيمة الإنتاج، يشارك السيسي اليوم في جنازة "الذهب الأبيض"، مكتفياً ببيع أراضي الدلتا الخصبة ككتل خرسانية، وتحويل الفلاح المنتج إلى "مواطن مديون" ينتظر معونة "حياة كريمة" التي لا تأتي.

