بينما تتسابق أبواق النظام الإعلامية لترويج وهم "التغيير القادم" واختزال الأزمة في تغيير "ساعي البريد" المتمثل في حكومة مصطفى مدبولي، يدرك كل ذي عقل أن ما يجري ليس سوى مسرحية هزلية تهدف لامتصاص الغضب الشعبي وتدوير نفايات الفشل السياسي. فمصر، التي ترزح تحت وطأة ديون تاريخية وفساد مؤسسي ينخر في عظامها، لا تحتاج إلى تغيير "موظفين" ينفذون التعليمات، بل تحتاج إلى نسف منظومة الحكم الاستبدادية التي جعلت من الوزراء مجرد "سكرتارية" لدى الحاكم الفرد والأجهزة السيادية، وعزلت الشعب تماماً عن المشاركة في تقرير مصيره.
إن حالة "الوله الإعلامي" بأسماء الوزراء الجدد ما هي إلا قنبلة دخان للتغطية على الكارثة الحقيقية: "دولة الفرد" التي تبتلع المؤسسات، و"الاقتصاد العسكري" الذي يخنق القطاع المدني. فالوزير في "جمهورية الضباط" لا يملك من أمره شيئاً سوى التوقيع على قرارات الجباية وبيع الأصول، بينما تدير "الدولة العميقة" المشهد من خلف الستار، محولة الوزارات إلى واجهات ديكورية لشرعنة النهب المنظم.
مدبولي: شماعة الفشل المثالية لنظام لا يعترف بالخطأ
لقد تحول مصطفى مدبولي وحكومته إلى "كيس ملاكمة" مثالي للنظام؛ يُضرب به لامتصاص سخط الشارع، بينما يبقى "الرأس المدبر" فوق النقد والمساءلة. ورغم اعتراف الجميع بأن هذه الحكومة هي الأسوأ في تاريخ مصر الحديث، إلا أن تحميلها وحدها المسؤولية هو تزييف للوعي.
وفي هذا السياق، يرى الدكتور حازم حسني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن "مشكلة مصر ليست في مدبولي أو من سيخلفه، بل في بنية السلطة نفسها. رئيس الوزراء في النظام الحالي هو مجرد 'كبير كتبة'، لا يملك صلاحية رسم سياسات أو مناقشة ميزانيات الجهات السيادية. الحديث عن تغيير وزاري دون تغيير في فلسفة الحكم هو استخفاف بعقول المصريين. نحن أمام نظام يدار بالأمر المباشر، والوزراء هم مجرد واجهة لامتصاص الصدمات."
ويتفق معه الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية، الذي يؤكد أن "التغيير الحقيقي يبدأ ببرلمان منتخب بنزاهة يراقب الحكومة ويحاسب الرئيس، وليس برلمان 'المخابرات' الذي يُهندَس لتمرير القوانين. أي حكومة قادمة ستكون نسخة مكررة من سابقتها ما دامت تعمل في ظل غياب الشفافية وهيمنة المؤسسة الأمنية على الحياة السياسية والاقتصادية."
"الدولة العميقة" والماكينة البالية: ضجيج بلا طحين
يشير الواقع إلى أن أي وزير جديد، مهما بلغت كفاءته الشخصية (إن وُجدت)، سيصطدم بجدار خرساني من المصالح المتشابكة لشبكات الفساد البيروقراطي والأمني. هذا "الترهل المؤسسي" الذي شبهه البعض بآلة بالية تلتهم الوقود ولا تنتج إلا الضجيج، هو نتاج طبيعي لعقود من تجريف الكفاءات وتصعيد أهل الثقة والولاء.
يعلق الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، نقيب الصحفيين الأسبق، على هذا الوضع قائلاً: "الأزمة الاقتصادية في مصر هيكلية وليست إدارية. لدينا موازنات سرية وصناديق خاصة خارج رقابة الحكومة نفسها، ولدينا اقتصاد جيش يزاحم القطاع الخاص في كل شيء من الخيار إلى العقارات. كيف لوزير مالية أو تخطيط أن ينجح وهو لا يسيطر إلا على جزء ضئيل من موارد الدولة؟ الحديث عن الإصلاح في ظل هذا الوضع هو حرث في البحر."
ويضيف الدكتور زهدي الشامي، الاقتصادي والقيادي الحزبي، أن "الحكومة الحالية استنفدت كل أدوات الجباية والاقتراض، ولم يعد لديها ما تقدمه سوى بيع أصول الدولة. التغيير القادم لن يخرج عن سياق البحث عن 'محاسبين جدد' لتسوية الدفاتر القديمة، وليس 'رجال دولة' يملكون رؤية تنموية. النظام يريد وزراء ينفذون تعليمات الصندوق الدولي بحذافيرها، دون اعتبار للألم الاجتماعي الذي يطحن الفقراء."
انتظار "السوبرمان" في زمن العجز: وهم الخلاص الفردي
تغذي الآلة الإعلامية للنظام خرافة "المنقذ المنتظر"، مصورة أن تغيير الأشخاص كفيل بحل الأزمات، في محاولة بائسة لصرف الأنظار عن العجز الهيكلي. لكن الحقيقة المرة التي يدركها الجميع هي أن حتى "نيتشه" وسوبرمانه سيعجزون عن تحريك حجر واحد في مستنقع الفساد المصري الحالي.
إن استمرار الرهان على الأفراد وتجاهل المؤسسات هو وصفة للانتحار الجماعي. فالشعب الذي عانى من "تبعات الإصلاح" المزعوم، والذي يكتشف اليوم أنه كان يضحي من أجل رفاهية "النخبة الحاكمة" وليس من أجل الوطن، لم يعد يملك ترف الانتظار أو تصديق الوعود. البرلمان القادم، والحكومة القادمة، وكل مؤسسات "الجمهورية الجديدة"، ولدت ميتة لأنها تفتقر للروح الديمقراطية والشرعية الشعبية. وما لم يحدث تغيير جذري يعيد للدولة توازنها وللمواطن كرامته، ستظل مصر تدور في حلقة مفرغة من الفشل، وتنتقل من حكومة "سيئة" إلى حكومة "أسوأ"، بينما يغرق المركب بالجميع.

