في حلقة جديدة من مسلسل "تبرئة الذمة" والقاء اللوم على الماضي، فجر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي موجة من الجدل والغضب الشعبي عقب تصريحاته الأخيرة التي زعم فيها أن "ديون مصر بدأت منذ عام 1970"، مشيراً بأصابع الاتهام بشكل مباشر إلى حقبة الرئيس الراحل أنور السادات.

 

التصريح الذي جاء في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة ديون خيالية وتضخم غير مسبوق، اعتبره مراقبون ونشطاء محاولة مكشوفة للهروب من المسؤولية عن السياسات الاقتصادية الحالية التي ضاعفت الدين الخارجي 4 مرات خلال عقد واحد، ومحاولة لمساواة "ديون الحرب والتعمير" في عهد السادات بـ"ديون المدن الترفيهية والقصور" في العهد الحالي.


 

المفارقة التي أشعلت منصات التواصل الاجتماعي لم تكن فقط في عدم دقة الأرقام، بل في الجرأة على مقارنة نظام استعاد الأرض وحافظ على السيادة، بنظام يواجه اتهامات بفرط في أصول الدولة الاستراتيجية من تيران وصنافير وصولاً إلى رأس الحكمة وجزيرة الوراق لسداد فواتير القروض.

 

مغالطات التاريخ وأرقام "الانهيار" الحقيقية

 

يرى الخبراء أن محاولة الرئيس تحديد عام 1970 كنقطة صفر للديون تتجاهل حقائق رقمية دامغة وتستهدف التشويش على الذاكرة الجمعية.

 

فوفقاً لبيانات البنك الدولي، تسلم السادات الحكم وديون مصر الخارجية لا تتجاوز 1.7 مليار دولار، وتركها وهي في حدود 21 مليار دولار بعد خوض حرب شاملة وإطلاق عملية سلام.

 

أما في العهد الحالي، فقد قفز الدين من حوالي 46 مليار دولار في 2014 ليلامس حاجز الـ 165 مليار دولار في 2024/2025.

 

وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور مصطفى شاهين، أستاذ الاقتصاد بجامعة أوكلاند، أن "تحميل السادات وزر الأزمة الحالية هو تدليس اقتصادي فاضح".

 

ويشير شاهين إلى أن ديون السادات كانت "ديون ضرورة" لتمويل معركة وجودية وبناء جيش عبر العبور، وكانت نسبة الدين للناتج المحلي حينها في حدود آمنة عالمياً مقارنة بالوضع الكارثي الحالي.

 

يضيف شاهين: "المشكلة ليست في أن السادات استدان، بل في أن النظام الحالي استدان أضعاف ما استدانه كل حكام مصر مجتمعين منذ عهد الخديوي إسماعيل، وأنفقها في مشاريع لا تدر عائداً دولارياً يغطي فوائدها".

 

 

السادات "المحارب ضد النظام "البائع"

 

النقطة الأكثر إثارة للغضب الشعبي كانت المقارنة الضمنية بين السياسات السيادية. فبينما استدان السادات لاستعادة سيناء، يلجأ النظام الحالي للاستدانة وبيع الأصول لسداد الفوائد، وهو ما ركز عليه الناشطون في تعليقهم على بيع "رأس الحكمة" و"تيران وصنافير".

 

يعلق الدكتور جودة عبد الخالق، وزير التضامن الأسبق والخبير الاقتصادي البارز، على هذه الجزئية محذراً من "فلسفة بيع الأصول لسداد الديون". يرى عبد الخالق أن هناك فارقاً جوهراً بين ديون السبعينيات وديون اليوم؛ فالسادات لم يفرط في أصول الدولة السيادية لسداد القروض، بينما السياسة الحالية تعتمد على "تسييل أصول الدولة" (Asset Monetization) كحل سهل وسريع لتغطية العجز.

 

ويضيف: "الخطير في الأمر هو تحول الدين من وسيلة للتنمية إلى مقصلة تجبر الدولة على التنازل عن ملكية أراضيها وموانئها وشركاتها الرابحة لمستثمرين أجانب، وهو ما يهدد الأمن القومي الاقتصادي لمصر على المدى البعيد، عكس حقبة السادات التي كانت تهدف لتحرير الأرض لا بيعها".

 

فخ "السرطان المالي" ومشاريع بلا جدوى

 

لم تتوقف الانتقادات عند المقارنة التاريخية، بل امتدت لتشريح هيكل الديون الحالي الذي وصفه الخبراء بـ"غير المستدام". يرى الدكتور حسن الصادي، أستاذ اقتصاديات التمويل بجامعة القاهرة، أن مصر وقعت في ما يسميه "السرطان المالي"، حيث تقترض الدولة لسداد فوائد القروض القديمة وليس لأغراض إنتاجية.

 

يقول الصادي في تحليله للمشهد: "الكارثة ليست في الرقم المطلق للدين، بل في أوجه إنفاقه. السادات أنفق على الحرب والمدن الصناعية، بينما أنفق النظام الحالي مليارات الدولارات المقترضة على البنية التحتية والمشروعات العقارية التي لا تدر دولاراً واحداً (Non-Tradable Goods)، مما خلق فجوة تمويلية رهيبة". ويحذر الصادي من أن استمرار هذه السياسة يعني أن الأجيال القادمة سترث دولة "مرهونة" بالكامل للدائنين، مع عجز كامل في الموازنة العامة التي يذهب أكثر من نصفها لخدمة الدين.

 

ويتفق معه في الرأي الخبير الاقتصادي هاني توفيق، الذي طالما حذر من الاعتماد على "الأموال الساخنة" والقروض لتثبيت سعر الصرف دون بناء قاعدة صناعية حقيقية. يرى توفيق أن محاولة القفز على الحقائق التاريخية لن تحل أزمة السيولة الدولارية، مؤكداً أن "الديون في عهد السادات كانت موجهة لاقتصاد حرب ثم سلام، بينما ديون اليوم تذهب لتمويل (الكباري والأبراج) في وقت تتوقف فيه المصانع عن العمل بسبب نقص المواد الخام".

 

ويختتم توفيق رؤيته بأن الحل يبدأ بالاعتراف بالفشل في إدارة الملف الاقتصادي، وليس بالبحث عن "شماعة" في كتب التاريخ عمرها أكثر من 50 عاماً.