في الوقت الذي تحاول فيه المؤسسة العسكرية في مصر ترميم صورتها الذهنية عبر بيانات رسمية تؤكد التزامها بالدستور وحماية مقدرات الوطن، كشفت ردود الفعل الشعبية الواسعة على منصات التواصل الاجتماعي عن شرخ عميق في العلاقة بين "الجيش" و"الشعب". فبينما خرج المتحدث العسكري ليؤكد بعبارات إنشائية أن الجيش هو "درع وسيف" وأنه "نابع من صلب الوطن"، جاء الرد الشعبي عاصفاً ليعري واقعاً مغايراً تماماً.

 

 

يرى قطاع واسع من المصريين أن الجيش تحول في عهد عبد الفتاح السيسي إلى "شركة قابضة" عملاقة، تتمتع بامتيازات "فوق دستورية"، وتحمي نظاماً سياسياً بدلاً من حماية الحدود، ما حول شعار "جيش الشعب" إلى مجرد يافطة دعائية تخفي خلفها "دولة داخل الدولة". الأزمة لم تعد مجرد انتقادات سياسية، بل تحولت إلى غضب مجتمعي من تحول المؤسسة العسكرية إلى منافس شرس في "لقمة العيش"، ومحتكر للسلع والخدمات، وسجان يتمتع بحصانة مطلقة ضد المساءلة، مما جعل محاولات "غسل السمعة" عبر البيانات الرسمية تبدو منفصلة تماماً عن الواقع الذي يعيشه المواطن المطحون.
"دولة الضباط".. إمبراطورية اقتصادية بلا ضرائب أو رقابة

 

جوهر الغضب الشعبي ينصب على "الامتيازات الحصرية" التي يتمتع بها ضباط الجيش ومشروعاتهم، والتي خلقت طبقية فجة في المجتمع المصري. فبينما يئن المواطن تحت وطأة الضرائب وغلاء الأسعار، تعمل شركات الجيش في "جنة ضريبية" خاصة بها. وفي هذا السياق، لخص الناشط عز الدين محمود الفوارق الجوهرية التي حولت الجيش إلى كيان منفصل، مشيراً إلى أن القوانين المدنية والجنائية لا تطبق عليهم حتى في الجرائم الجسيمة، وأن شركاتهم لا تخضع لقوانين الضرائب أو العمل التي تكسر ظهر المواطن العادي. وأشار إلى الكارثة الأكبر المتمثلة في حق الجيش بوضع اليد على الأراضي بدواعي الأمن القومي ثم تحويلها لاستثمارات خاصة، ليخلص إلى أن الدولة تحولت إلى غابة، "فالشعب هو العدو والحكومة هي التي على حق".

 

 

هذه الحالة من "الاستئثار" بالسلطة والثروة دفعت المعلقين لوصف الوضع بأنه "انهيار للدولة"، حيث أصبح الجيش هو "القاضي والحكم والمانح والمانع"، كما وصف مراد علي، الذي حذر من أن هذه النهاية ستكون كارثية إذا لم تنتهِ هذه الهيمنة قبل فوات الأوان. الانتقادات طالت حتى التفاصيل الصغيرة التي تكرس التمييز، مثل تخصيص "شباك للمعاشات" للعسكريين، أو المستشفيات والنوادي التي يُمنع "الحرافيش" من دخولها، كما عبرت أمينة عطالله التي استذكرت دهشتها في صغرها من لافتات "ممنوع لغير الضباط"، لتدرك لاحقاً أن السبب هو أن الشعب مجرد مواطنين من الدرجة الثانية.
 

 

من "حماية الحدود" إلى "بيع الجمبري".. تشوه العقيدة القتالية

 

لم يتوقف الغضب عند الجانب الاقتصادي، بل امتد ليتناول "هيبة الجيش" التي تم استنزافها في الأسواق ومنافذ بيع السلع الغذائية. يرى النشطاء أن إغراق السيسي للجيش في "مستنقع البيزنس" كان متعمداً لشراء ولاء القيادات، ما أدى إلى تآكل العقيدة العسكرية. وعبر النشطاء عن سخطهم من مشهد الجنود الذين يُسرحون لبيع الخضار والجمبري والمكرونة، في مظهر مهين للبدلة العسكرية، بينما تتراجع المهام الأساسية للدفاع عن الوطن. وفي نقد لاذع لهذا المسار، أشار إبراهيم إبراهيم إلى أن الشعب "يسف التراب" لتسمين العساكر وشراء الأسلحة، لتكون النتيجة أن هؤلاء "استضعفوا الشعب وأذلوه" بعد أن تضخمت ثرواتهم ونياشينهم، ليتحولوا إلى طبقة ارستقراطية تتعالى على من يطعمها.

 

 

حراس "الكرسي" لا "الوطن".. تآكل الشرعية والمصداقية

 

النقطة الأخطر التي أثارها النقاش الدائر هي التشكيك في "وطنية" الدور الذي يلعبه الجيش حالياً، حيث بات يُنظر إليه كأداة لحماية "عرش السيسي" وليس لحماية "تراب مصر". الربط بين التفريط في جزيرتي تيران وصنافير، وبين الصمت على ما يحدث في غزة، وبين قمع الديمقراطية في الداخل، عزز القناعة بأن الجيش أصبح "سمسار سيادة" كما وصفه زاهي محبوب، الذي اعتبر أن المشهد اكتمل بـ"سيناء بلا سيادة ومصر بلا قرار". وكتبت إحدى المغردات بحدة قائلة: "أقسم بالله أن الجيش وقياداته موجودة لحماية شخص واحد اسمه عبدالفتاح السيسي ونهب ثروات الدولة".

 

 

وفي رد مباشر على ادعاءات المتحدث العسكري باحترام الدستور، ذكّر المستشار الإعلامي أحمد عبد العزيز بأن الدستور يجرّم الانقلاب، واصفاً ما حدث بـ"الخيانة العظمى"، ومؤكداً أن التراب الذي يتحدث عنه المتحدث "لم يعد ملكاً له". كما ذهب المجلس الثوري المصري إلى أبعد من ذلك، بربط الجيش الحالي بتاريخ من "إجهاض الثورات" منذ عهد عرابي، معتبراً أن الجيش الذي سلم غزة قديماً ويحاصرها حديثاً لا يمكن أن يكون "خير أجناد الأرض".
 

 

واختصرت التعليقات المشهد في أن الجيش بات، في نظر الكثيرين، "جيش احتلال" كما وصفته ماجي نور، حيث لا دستور يحكمه ولا وطن يحميه سوى مصالحه ومصالح "المنقلب"، لتنتهي أسطورة "الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة" إلى واقع مرير يقول: "الجيش والسلطة.. يد تبطش بالشعب".