في شهادة اقتصادية دامغة تعري حقيقة الوضع المالي المتداعي للدولة، كشفت الدكتورة عالية المهدي، أستاذ الاقتصاد والعميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عن أرقام صادمة تعكس حجم الكارثة التي أوصلت إليها السياسات الحالية الموازنة العامة المصرية.
التصريحات التي أدلت بها "المهدي" لم تكن مجرد تحذير عابر، بل جاءت بمثابة إعلان رسمي عن دخول الاقتصاد المصري في مرحلة "الخطر الوجودي"، حيث أكدت أن إجمالي الأقساط والفوائد التي تتحملها الدولة بات يمثل نحو 142% من إجمالي الإيرادات العامة.
هذا الرقم المفزع ينسف كليًا أي حديث حكومي عن "التعافي" أو "الإصلاح"، ويضعنا أمام حقيقة مجردة: الدولة المصرية، تحت الإدارة الحالية، باتت مفلسة عمليًا من الناحية المحاسبية، إذ إن كل مليم يدخل خزينتها لا يكفي حتى لسداد التزامات الديون، بل تحتاج فوقه للاستدانة مجددًا، في مشهد عبثي يؤكد غياب الرؤية وتكريس الفشل.
اختلال هيكلي.. الموازنة في غرفة الإنعاش
ما طرحته الدكتورة عالية المهدي يشير بوضوح إلى "اختلال هيكلي حاد" يضرب عصب الموازنة العامة. عندما تتجاوز فاتورة خدمة الدين (أقساط وفوائد) حاجز الإيرادات الكلية بنسبة 42%، فهذا يعني بلغة الاقتصاد أن الدولة فقدت السيطرة تمامًا على مقدراتها المالية. الإيرادات التي يتم تحصيلها من جيوب المواطنين عبر الضرائب والرسوم المتصاعدة، ومن عوائد قناة السويس وغيرها، لم تعد توجه لبناء مدرسة أو مستشفى أو طريق يخدم الناس، بل تذهب فورًا وبالكامل – ومعها ديون جديدة – إلى جيوب الدائنين في الداخل والخارج.
إن هذا الاختلال ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج سنوات من سياسات "الاقتراض السهل" والإنفاق غير الرشيد على مشاريع لا تدر عوائد دولارية حقيقية تساهم في سداد هذه الالتزامات. لقد حولت السلطة الموازنة العامة إلى مجرد "مكتب صرافة" كبير ومفلس، مهمته الوحيدة تدوير الديون، بينما يُترك الاقتصاد الحقيقي والقطاعات الإنتاجية لتواجه الموت البطيء.
الاقتراض لسداد الاقتراض.. حلقة مفرغة من الفشل
أوضحت "المهدي" في تحليلها للأزمة أن هذه النسبة الكارثية (142%) تعني نتيجة عملية واحدة لا مفر منها: الدولة مضطرة قسرًا للاقتراض لسد الفجوة التمويلية الهائلة. نحن هنا لا نتحدث عن اقتراض من أجل التنمية، بل اقتراض من أجل "سداد القروض القديمة". هذه الدائرة الجهنمية من الاستدانة تعني رهن مستقبل الأجيال القادمة وتكبيل القرار الوطني لعقود طويلة.
بدلًا من توجيه الإيرادات لتحسين جودة الحياة، أو دعم الاستثمار الإنتاجي الذي يخلق فرص عمل ويحارب البطالة، تجد الحكومة نفسها تلهث خلف المؤسسات الدولية ودول الجوار للحصول على أي سيولة نقدية تمنع إعلان التعثر. هذا الوضع يحرم المواطن المصري من حقه الطبيعي في خدمات أساسية لائقة، حيث تتقلص مخصصات الصحة والتعليم والدعم السلعي فعليًا لصالح "غول" الفوائد الذي لا يشبع، مما يفسر التدهور الملحوظ في كافة المرافق والخدمات العامة رغم الجباية المستمرة.
استدامة مستحيلة.. وضغوط تنذر بالانفجار
التحذير الأخطر الذي يمكن استخلاصه من حديث أستاذة الاقتصاد هو التشكيك المشروع في "استدامة السياسات المالية الحالية". إن استمرار هذا الوضع يضع ضغوطًا لا تحتمل على المالية العامة، ويؤدي إلى تآكل ما تبقى من الطبقة الوسطى. فمع تصاعد أعباء الدين عامًا تلو الآخر، تتلاشى قدرة الدولة على المناورة أو الاستجابة لأي صدمات اقتصادية مستقبلية.
تثير هذه الأرقام تساؤلات مشروعة حول المدى الزمني الذي يمكن للنظام الحالي أن يستمر فيه بهذه السياسة الانتحارية. هل يمكن لدولة أن تعيش للأبد على القروض لتدفع ديونها؟ الإجابة الاقتصادية والمنطقية هي "لا". نحن أمام سيناريو مخيف يشي بأن الحكومة قد تلجأ لمزيد من الإجراءات التقشفية القاسية، أو بيع المزيد من أصول الدولة السيادية بأسعار بخسة، فقط لتأجيل لحظة الانهيار الكبير. إن ما كشفته د. عالية المهدي هو وثيقة إدانة لسياسات اقتصادية عقيمة، تُصر على معالجة الخطأ بخطأ أكبر، وتقود البلاد بخطى ثابتة نحو المجهول.

