لم يعد لجوء المصريين إلى سوق السلع المستعملة أو ما يُعرف بـ"السكند هاند" مجرد خيار اقتصادي يهدف إلى التوفير، بل تحول إلى استراتيجية بقاء إجبارية فرضتها السياسات الاقتصادية المتخبطة التي أدت إلى سحق الطبقة المتوسطة وتآكل القوة الشرائية بشكل غير مسبوق. فبعد عامين من موجات التضخم العاتية التي ضربت البلاد، وسلسلة من قرارات خفض العملة، باتت السلع الجديدة رفاهية بعيدة المنال لقطاع واسع من المواطنين.
هذا التحول الجذري في النمط الاستهلاكي لم يقتصر على الهوامش، بل خلق سوقًا موازية ضخمة للسيارات والأجهزة الكهربائية المستعملة، تعكس في عمقها فشل الحكومة في كبح جماح الأسعار أو حماية مستوى معيشة المواطن، لتصبح "الخردة" وبقايا استخدام الآخرين هي الملاذ الأخير لملايين الأسر المصرية.
انهيار القوة الشرائية: ضريبة الفشل الاقتصادي
يرى خبراء الاقتصاد أن ازدهار سوق المستعمل ليس مؤشرًا على مرونة السوق بقدر ما هو دليل دامغ على انهيار القدرة الشرائية للمواطنين نتيجة السياسات الحكومية. ورغم البيانات الرسمية التي تتحدث عن تباطؤ معدلات التضخم مؤخرًا لتصل إلى 12.3% في نوفمبر 2025، إلا أن هذه الأرقام تظل منفصلة عن الواقع المعيشي، حيث لا تزال الأسعار مرتفعة بشكل جنوني مقارنة بالدخول المتجمدة.
ويؤكد الخبير الاقتصادي محمد أنيس أن التضخم في مصر لم يكن مجرد ظاهرة عابرة، بل ترافق مع تآكل حقيقي في قيمة العملة والمدخرات، مما أجبر المواطنين على تغيير أنماطهم الاستهلاكية قسرًا. هذا التغيير لم يتوقف عند شراء الأجهزة المستعملة، بل امتد ليمس الأمن الغذائي للأسر، متمثلًا في تراجع استهلاك البروتين الحيواني واللجوء لبدائل غذائية أرخص، في مشهد يعري وعود "الجمهورية الجديدة" بالرخاء.
التمويل الاستهلاكي: ديون من أجل "القديم"
في سابقة تعكس عمق الأزمة، كشف سعيد زعتر، رئيس اتحاد التمويل الاستهلاكي، أن 50% من إجمالي تمويلات السلع الاستهلاكية في مصر أصبحت موجهة للمستعمل، وتحديدًا السيارات. هذا يعني أن المواطن المصري لم يعد يقترض لامتلاك الجديد، بل أصبح يكبّل نفسه بالديون والأقساط لسنوات طويلة من أجل شراء سيارة مستعملة أو جهاز كهربائي "كسر زيرو".
وتتوقع التقديرات أن تستحوذ الأجهزة الكهربائية والإلكترونية المستعملة وحدها على 25% من التمويل الاستهلاكي قريبًا. هذه الأرقام تشير بوضوح إلى أن الفجوة السعرية بين "الجديد" و"المستعمل" أصبحت هائلة لدرجة أن النظام المالي الرسمي (شركات التمويل) بدأ يعيد هيكلة نفسه ليتربح من فقر المواطنين وحاجتهم للسلع الأساسية المستعملة، مع توقعات بوصول حجم التمويلات إلى 150 مليار جنيه بحلول 2026.
السيارات المستعملة: حلم الطبقة المتوسطة الضائع
يبرز قطاع السيارات كأكبر دليل على التشوه الذي أصاب السوق المصرية. فمع الارتفاع الجنوني في أسعار السيارات الجديدة نتيجة القيود على الاستيراد وتدهور العملة، أصبح "السكند هاند" هو الخيار الوحيد حتى للطبقات التي كانت تُصنف سابقًا ضمن الشرائح الميسورة.
ويشير أحمد أسامة، العضو المنتدب لشركة "درايف"، إلى أن برامج تقسيط السيارات المستعملة تشهد نموًا مطردًا لأن الأسعار، حتى مع تراجعها الطفيف، تظل فوق طاقة الغالبية العظمى. هذا الوضع حول السيارة من وسيلة نقل ضرورية إلى أصل استثماري صعب المنال، ودفع السوق نحو حالة من العشوائية حيث يتحكم الأفراد في التسعير بعيدًا عن أي ضوابط، مما يفاقم معاناة المشتري الذي يجد نفسه بين مطرقة الأسعار وسندان الحاجة.
الخلاصة: اقتصاد "إعادة التدوير" الإجباري
إن تحول مصر نحو اقتصاد "السكند هاند" بهذه الوتيرة المتسارعة ليس تطورًا طبيعيًا للأسواق، بل هو عرض لمرض عضال أصاب الاقتصاد الكلي. فبينما تتحدث الحكومة عن مشاريع عملاقة وأرقام نمو، يضطر المواطن للبحث في منصات "فيسبوك ماركت" و"OLX" عن ثلاجة مستعملة أو سيارة متهالكة لتدبير أمور حياته. ويتوقع الاقتصاديون أن يستغرق ترميم القوة الشرائية للمصريين ما بين 3 إلى 5 سنوات، وهي فترة طويلة من التقشف الإجباري يدفع ثمنها المواطن البسيط وحده، بينما تكتفي الحكومة بمشاهدة السوق وهو يعيد تدوير فقر الناس في دورات اقتصادية لا تنتهي.

