في خطوة تتجاوز حدود الاقتصاد لتدخل عمق السياسة الإقليمية، كشفت صحيفة "معاريف" العبرية عن الأبعاد الاستراتيجية الحقيقية لصفقة الغاز الإسرائيلية مع مصر، والتي وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ"الأكبر في تاريخ الدولة". فما بدا للوهلة الأولى اتفاقًا تجاريًا بحتًا، يتضح أنه جزء من استراتيجية إقليمية متعددة الأبعاد تهدف إلى إعادة رسم خرائط النفوذ في شرق المتوسط، واحتواء الطموحات التركية والقطرية في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بقطاع غزة ومستقبله السياسي والأمني.

 

استراتيجية "الملاقط" لمحاصرة تركيا

 

تعمل إسرائيل، وفق ما كشفته "معاريف"، على تنفيذ ما وصفته بـ"حركة الملاقط" لاحتواء النفوذ التركي إقليميًا من اتجاهين متزامنين. يتمثل المحور الأول في بناء تحالف استراتيجي في شرق البحر المتوسط يضم قبرص واليونان، وهو ما يضع إسرائيل كجار مباشر لتركيا في منطقة نفوذها التقليدية.

 

هذا التموضع الجغرافي-السياسي يثير حساسيات أمنية تركية شديدة، خاصة مع وجود سلاح الجو الإسرائيلي على مقربة من الحدود التركية، ما يُعتبر في أنقرة تحديًا مباشرًا لأمنها القومي ومكانتها كقوة إقليمية مهيمنة في شرق المتوسط.

 

أما المحور الثاني، فيعتمد على تعزيز التحالفات مع ما وصفتها الصحيفة بـ"الدول العربية المعتدلة"، وعلى رأسها مصر والسعودية والأردن والبحرين، بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية. وتشترك هذه الدول، بحسب التحليل الإسرائيلي، في مصلحة مشتركة تتمثل في منع حركة حماس من التعافي والعودة كقوة مهيمنة في غزة، وإغلاق الطريق أمام أي محاولات تركية أو قطرية للدخول إلى القطاع وترسيخ نفوذ سياسي فيه.

 

قطر وتركيا: تهديد للاستقرار الإقليمي

 

تنظر إسرائيل والدول العربية المشاركة في هذا التحالف إلى الدور التركي والقطري في دعم حماس باعتباره تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمي. وتزعم "معاريف" أن أنقرة والدوحة تنتميان إلى تيار "الإخوان المسلمين"، وأن نجاحهما في ترسيخ نفوذ في غزة سيشكل سابقة خطيرة قد تمتد تداعياتها إلى دول عربية أخرى.

 

من هذا المنطلق، تصبح صفقة الغاز مع مصر أداة لتحقيق هدف استراتيجي أكبر من مجرد بيع الطاقة، فهي تمثل إعلانًا ضمنيًا عن تفاهم سياسي-أمني بين القاهرة وتل أبيب، يتضمن دعم الاقتصاد المصري المتعثر مقابل تولي مصر دور "القوة المهيمنة" في المهام الأمنية والبنائية المتعددة الأطراف في غزة.

 

غزة: ساحة الصراع على النفوذ

 

تشير الصحيفة الإسرائيلية إلى أن إعادة إعمار غزة ستكون ساحة المواجهة الحقيقية بين محور القاهرة-تل أبيب من جهة، ومحور أنقرة-الدوحة من جهة أخرى. ووفقًا للتصور الإسرائيلي، ستستخدم مصر عائدات إعادة الإعمار لدفع ثمن الغاز الإسرائيلي، في حلقة اقتصادية مغلقة تضمن استمرار التعاون الاستراتيجي بين البلدين.

 

هذا التصور يستبعد أي دور تركي أو قطري في عملية إعادة الإعمار، رغم التصريحات المتكررة من أنقرة والدوحة عن استعدادهما للمساهمة في هذا الملف. ويبدو أن التحالف الإسرائيلي-المصري-السعودي يسعى لاحتكار هذا الملف تحت مظلة أمريكية مباشرة.

 

الدور الأمريكي: المظلة الحامية

 

تؤكد "معاريف" أن نجاح هذه الاستراتيجية يتطلب دعمًا أمريكيًا صريحًا وواضحًا. وتشير الصحيفة إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مطالب بالموافقة على هذه التحالفات، التي تهدف صراحة إلى احتواء "إمبراطورية" الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في إشارة واضحة إلى الطموحات التركية لإعادة إحياء نفوذها الإقليمي.

 

الأبعاد الاقتصادية: أرقام فلكية

 

من الناحية الاقتصادية، وصف نتنياهو الصفقة بأنها ستدر على الخزينة الإسرائيلية نحو نصف مليار شيكل سنويًا في السنوات الأربع الأولى، لترتفع تدريجيًا إلى 6 مليارات شيكل سنويًا. فيما أشار وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين إلى أن إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم ستصل إلى 58 مليار شيكل، مع استثمارات فورية في البنية التحتية بقيمة 16 مليار شيكل.

 

والخلاصة تكشف هذه الصفقة عن تحول جذري في طبيعة العلاقات الإقليمية، حيث لم تعد الطاقة مجرد سلعة تجارية، بل أصبحت سلاحًا استراتيجيًا في صراع النفوذ. وبينما تسعى إسرائيل لترسيخ نفسها كـ"قوة طاقة إقليمية" محورية، تجد تركيا وقطر نفسيهما في مواجهة تحالف إقليمي متنامٍ يهدف إلى تحجيم دورهما في المنطقة، خاصة في ملف غزة الذي يمثل رمزية سياسية كبرى للطرفين.