في محاولة يائسة لتجميل وجه نظامه المهترئ دولياً، أصدرت وزارة خارجية الانقلاب "كتاباً أبيض" تروج فيه لما أسمته "استراتيجية السيسي للاتزان الاستراتيجي" في العلاقات الدولية.

 

لكن هذا الكتاب، المليء باللغة الدبلوماسية المنمقة، لا يعدو كونه ستارة دخان كثيفة، تخفي وراءها حقيقة "الفشل الاستراتيجي" غير المسبوق الذي أوصل مصر إلى أسوأ مراحل عزلتها وتراجع نفوذها في تاريخها الحديث.

 

فبينما يتغنى النظام بـ"الاتزان"، أصبحت حدود مصر مهددة بالمليشيات من كل جانب، وحقوقها المائية في النيل في مهب الريح، وأراضيها السيادية تباع في مزادات علنية، وقرارها الوطني مرهون للدائنين، في مشهد يؤكد أن ما يمارسه السيسي ليس "اتزاناً" بل هو "رقص على حافة الهاوية".

 

"الفشل المائي".. من سد النهضة إلى تيران وصنافير

 

أكبر دليل على زيف "الكتاب الأبيض" هو ملف المياه والأرض. ففي عهد السيسي، تحول "سد النهضة" من مجرد مشروع إثيوبي إلى أمر واقع يهدد حياة 100 مليون مصري بالعطش، بعد أن فرط النظام في كل أوراق الضغط السياسية والقانونية، واكتفى بالتصريحات الجوفاء والوعود الكاذبة. هذا العجز عن حماية "شريان الحياة" هو التعريف الحرفي للفشل الاستراتيجي، فالدولة التي لا تستطيع حماية مصدر مياهها الوحيد هي دولة فاقدة للسيادة.

 

لم يكتفِ النظام بالتفريط في مياه النيل، بل أقدم على جريمة "تقزيم مصر جغرافياً" بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، في صفقة مشبوهة أعادت ترسيم حدود الدولة البحرية وتخلت عن أراضٍ مصرية تاريخية مقابل حفنة من "الرز".

 

هذا التفريط في السيادة، والذي تبعه تراجع في مساحة المياه الاقتصادية في البحر المتوسط لصالح اليونان وقبرص، يؤكد أن "الاتزان الاستراتيجي" المزعوم ليس إلا غطاءً لسياسة "بيع الأراضي" التي ينتهجها النظام لسداد ديونه.

 

حدود مشتعلة.. مليشيات ليبيا والسودان على الأبواب

 

يتحدث "الكتاب الأبيض" عن "الاستقرار الإقليمي"، بينما الواقع على الأرض يكشف عن حدود مصرية هي الأكثر اشتعالاً منذ عقود. ففي الغرب، تركت سياسات السيسي الفاشلة في ليبيا المجال مفتوحاً للمليشيات والمرتزقة لتتحكم في المشهد، وتتحول الحدود الغربية إلى مصدر دائم لتهريب السلاح والمخدرات والإرهابيين، دون أي قدرة حقيقية على حسم الصراع.

 

أما في الجنوب، فقد أدى موقف النظام المتذبذب من حرب السودان إلى كارثة إنسانية وأمنية على الحدود، مع تدفق ملايين اللاجئين وانتشار المليشيات. النظام الذي عجز عن لعب دور الوسيط الحقيقي أو حماية أمنه القومي، اكتفى بمراقبة جاره الاستراتيجي وهو ينهار، لتصبح حدود مصر الجنوبية مرتعاً للفوضى والتهديدات، مما يفضح عجز "الاتزان" المزعوم عن تحقيق أبسط متطلبات الأمن القومي.

 

"احتلال فيلادلفيا".. وبيع الأصول الاستراتيجية

 

ذروة الفشل الاستراتيجي تجلت في السماح لإسرائيل باحتلال محور فيلادلفيا وقطاع غزة، ضارباً بعرض الحائط بمعاهدة السلام والتزامات مصر التاريخية. لقد حول السيسي مصر من دولة فاعلة في القضية الفلسطينية إلى مجرد "حارس معبر" ينفذ الأوامر الإسرائيلية، في خيانة فاضحة لدماء شهداء الجيش المصري وتضحياتهم. هذا التخلي عن الدور الإقليمي هو نتيجة مباشرة لسياسة "شراء الرضا" الخارجي لضمان بقاء النظام.

 

داخلياً، يتواصل نزيف التفريط الاستراتيجي ببيع الشركات الوطنية والموانئ والأصول الرابحة للأجانب (إماراتيين، قطريين، سعوديين). النظام الذي يبيع "أثاث البيت" لتسديد ديونه، لا يمكن أن يدعي امتلاكه لاستراتيجية متزنة. إنه يبيع قدرات الدولة الإنتاجية ومصادر دخلها المستقبلية، محولاً مصر إلى "دولة مؤجرة" فاقدة للقرار، وهو ما يجعل "الكتاب الأبيض" مجرد حبر على ورق، لا قيمة له أمام واقع التفريط والانهيار الذي يعيشه كل مصري.