في مشهد كاشف لعقلية "الاستعراض" التي تحكم مشاريع النظام الحالي، تحول المتحف المصري الكبير – الذي أنفقت عليه الدولة مليارات الدولارات من قوت الشعب وديونه – إلى مادة للسخرية والتساؤل، بعد أن فضحت زخات مطر شتوية هشاشة التخطيط الهندسي وسوء التنفيذ. وبينما انتشرت صور المياه وهي تغرق بهو المتحف الجديد، خرجت وزارة السياحة والآثار ببيان "تبريري" يثير الدهشة أكثر مما يقدم إجابات، واصفة تسرب المياه بأنه "أمر متوقع ومتوافق مع التصميم"، وكأن التصميم الهندسي العالمي يقتضي أن يسبح الزوار في برك المياه داخل صرح يُفترض أنه يحوي كنوز الأرض!

 

هذا البيان ليس مجرد رد رسمي، بل هو تجسيد لسياسة "الإنكار" التي تنتهجها حكومة الانقلاب في مواجهة أي كارثة. فبدلاً من محاسبة المقصرين والاعتراف بوجود عيوب فنية في "مشروع القرن"، يتم تسويق الفشل على أنه "فلسفة معمارية" تهدف للتهوية والإضاءة، في استخفاف واضح بعقول المصريين الذين يرون أموالهم تُهدر في مشاريع تنهار عند أول اختبار حقيقي.

 

"تصميم للتهوية".. عذر أقبح من ذنب

 

تبرير الوزارة بأن تسرب مياه الأمطار ناتج عن تصميم يعتمد على "الإضاءة والتهوية الطبيعية" هو سقطة هندسية وإدارية. فهل يعقل أن أكبر متحف في العالم، المخصص لحفظ آثار لا تقدر بثمن وتتأثر بالرطوبة وعوامل الجو، يتم تصميمه بحيث يسمح بدخول الأمطار؟ وإذا كان الأمر "متوقعًا" كما تزعم الوزارة، فأين شبكات تصريف المياه؟ وأين الإجراءات الاحترازية؟

 

الحقيقة التي يحاول البيان التغطية عليها هي أن هناك خللاً جسيمًا في التنفيذ أو التصميم، وأن ما حدث هو فضيحة هندسية في مشروع تكلف المليارات. القول بأن المياه "محدودة" لا ينفي الكارثة، فالمتحف ليس حديقة مفتوحة، بل مؤسسة ثقافية يجب أن تضمن أعلى معايير الحماية للزوار وللمعروضات الأثرية التي قد تتعرض للتلف.

 

أرضيات متهالكة وصيانة "ترقيعية"

 

لم يتوقف الأمر عند الأمطار، بل اعترفت الوزارة ضمنيًا بوجود مشاكل في "الأرضيات الخارجية"، مبررة ذلك بأنه يرجع لـ"أعمال وتجهيزات الافتتاح". هذا الاعتراف يطرح تساؤلاً خطيرًا: كيف لمشروع تم افتتاحه للجمهور (ولو جزئيًا) أن يعاني من مشاكل في أرضياته تستدعي "خطة صيانة" فورية؟ ألم يتم استلام المشروع من الشركات المنفذة؟ أين لجان الاستلام؟

 

الحديث عن "خطة صيانة زمنية" بينما الزوار يتجولون في المتحف هو اعتراف بأن المشروع تم سلقه وافتتاحه قبل أن يكتمل فنيًا، فقط من أجل "اللقطة" الإعلامية، ليتحول الزائرون إلى حقول تجارب في موقع عمل لم ينتهِ بعد.

 

جباية إلكترونية وتمييز في الأسعار

 

وفي سياق تعظيم الجباية، أعلنت الوزارة عن تطبيق نظام الحجز الإلكتروني الحصري وإلغاء منافذ البيع المباشر. هذه الخطوة، وإن كانت تبدو "تحديثًا"، إلا أنها تحمل في طياتها تضييقًا على فئات واسعة من المصريين البسطاء الذين لا يجيدون التعامل مع التكنولوجيا أو لا يملكون وسائل دفع إلكتروني. النظام يسعى لـ"فلترة" الزوار واقتصارهم على شريحة معينة، بينما يتم عزل المواطن العادي عن تراث أجداده.

 

أما الدفاع عن "اختلاف أسعار التذاكر" بين المصريين والأجانب، فهو استمرار لنهج تسليع الآثار، حيث يتم التعامل مع المتحف كمشروع تجاري ربحي بالدرجة الأولى، لا كمؤسسة تنويرية تهدف لربط المواطن بتاريخه.

 

صرح عالمي بعقلية "المقاول"

 

إن ما حدث في المتحف المصري الكبير هو جرس إنذار يؤكد أن مشاريع "الجمهورية الجديدة" تعاني من أمراض مزمنة: التسرع في التنفيذ، سوء التخطيط، وغياب الشفافية. المتحف الذي كان يُفترض أن يكون هدية مصر للعالم، تحول بسبب الفساد وسوء الإدارة إلى نموذج للفوضى.

 

حكومة السيسي تثبت مجددًا أنها بارعة في بناء الجدران والواجهات البراقة، لكنها فاشلة بامتياز في الإدارة والتشغيل والصيانة. وستظل مياه الأمطار التي أغرقت بهو المتحف شاهدة على عهد "الفنكوش"، حيث تُهدر المليارات لتغرق في "شبر ميه" عند أول شتاء.