لم يعد مشروع «بيت الوطن» مجرد برنامج حكومي لاستقطاب مدخرات المصريين بالخارج، بل تحوّل في نظر آلاف المتضررين إلى فخ دولاري منظم، تُراكم من خلاله حكومة الانقلاب المليارات، بينما ترفض رد أموال الحاجزين الذين لم تُخصص لهم أي قطع أراض، أو تُلقي بهم فريسة في يد السماسرة والمضاربين العقاريين.

 

في الوقت الذي يتباهى فيه مسؤولو الانقلاب بأن المشروع حقق نحو 7.3 مليار دولار خلال عام واحد فقط، تقف آلاف الأسر المهاجرة أمام حقيقة مُرّة: لا أرض استلموا، ولا مقدمات استردوا، ولا دولة تحاسب أو تراقب أو تعترف حتى بحق المتضررين في التعويض والشفافية.

 

ماراثون الحجز: من كود إلكتروني إلى سراب واقعي

 

تبدأ الحكاية بما يشبه «ماراثون» مُحكم القواعد لصالح الدولة والسماسرة، وضد المواطن المغترب.

 

المطلوب بسيط في الظاهر: مصري بالخارج، يملك دولارات، يدخل على منصة إلكترونية، يختار قطعة أرض أو أكثر من خرائط منشورة، تُظهر تقسيمات ومواقع وقيم مقدمات، ويحصل في النهاية على «كود حجز» يصبح هويته داخل اللعبة.

 

لاحقًا تُعلن هيئة المجتمعات العمرانية عن فترة محددة لاستقبال الحوالات الدولارية.

 

يدفع المغترب أو السمسار المقدم عبر الكود، ثم ينتظر شهورًا حتى يصدر البنك المركزي تقريرًا ترتيبيًا للمتقدمين، تتولى بعده الهيئة تخصيص ما بين 100 و500 قطعة يوميًا، وفق أسبقية وصول الحوالة إلى الحساب البنكي المخصص للمشروع.

 

إذا نافس أكثر من شخص على نفس القطعة، تذهب لمن سبق بتحويل الأموال، بينما يُترك الآخرون يبحثون في «بواقي الخريطة» كما لو كانوا يحجزون مقاعد سينما، لا مدخرات عمرهم وحقهم في مسكن مستقر.

 

وفي حال لم يجد المتقدم قطعة مناسبة، أو لم تُخصص له أي قطعة، تبدأ مأساة أخرى: مماطلة في الاسترداد، وتعقيدات إدارية، وانسداد أي مسار عادل وواضح لرد الأموال بالدولار الذي دفعوه.

 

سماسرة يلتهمون المشروع.. والمغترب «يروح في الرجلين»
مصادر مطلعة على ملفات المشروع تكشف أن النسبة الأكبر من المتقدمين لا تمثل الأسر المغتربة الباحثة عن سكن، بل سماسرة وتجار أراضي، تتراوح حصتهم التقديرية بين 50% و90% من إجمالي المتقدمين في بعض الطروحات.

 

هؤلاء السماسرة، المحسوبون اسميًا على «المصريين بالخارج»، تحوّلوا مع الوقت إلى مقاولين لهم شركات وحجم أعمال معتبر، بفضل هيكل طروحات صُمم ليخدم من يملك شبكة علاقات ومعلومات سابقة، لا من يملك حلمًا ببيت آمن.

 

بينما يتنقل السماسرة بين أراضٍ يحصلون عليها بالجملة، ثم يبيعونها لمقاولين أو يتحولون هم أنفسهم إلى مقاولين، يبقى المغترب العادي هو الحلقة الأضعف، يُستنزف في دفع المقدمات، ثم يُدفع دفعًا إما لقبول عرض «أوفر» من مقاول صغير يعوّضه ببضعة آلاف، أو للانتظار لسنوات حتى تكتمل المرافق، إن اكتملت أصلًا.

 

طروحات تكميليّة بلا عدل جغرافي حقيقي

 

حكومة الانقلاب تروّج لفكرة أن أراضي «بيت الوطن» موزعة على 24 مدينة، وأنها تراعي التوازن الجغرافي، لكن الأرقام المتاحة تشير إلى أن مدن نطاق القاهرة الكبرى تستحوذ وحدها على نحو 55% من هذه الأراضي، وبفارق شاسع عن باقي المحافظات.

 

الأخطر أن الطروحات التكميلية التي تعلنها وزارة الإسكان، كما حدث في طرح قرابة 6800 قطعة في أكتوبر الماضي، تتركز غالبًا في مدن أقل جذبًا مثل أسوان ومدن في صعيد مصر، بينما تتضاءل بشدة فرص الحصول على قطع مميزة في القاهرة الجديدة أو الشيخ زايد أو دمياط الجديدة.

 

بهذا الشكل، يُعاد إنتاج نفس المعادلة الظالمة: من يملك معلومات وعلاقات يضغط لطرح أراضٍ في مناطق بعينها، ثم يقتنصها بقدرات تمويلية وشبكات سماسرة منظمة، بينما يُدفع المغترب العادي إلى هامش السوق، أو يُلقى به في أراضٍ بلا قيمة استثمارية حقيقية، أو بلا ترفيق مكتمل.

 

أراضٍ بلا مرافق.. عقار لا يُباع ولا يُسكن

 

مصادر داخل هيئة المجتمعات العمرانية تقر ضمنيًا بأن الهيئة خضعت في أوقات كثيرة لضغوط و«تربيطات» لطرح أراضٍ قبل اكتمال ترفيقها.

 

يستلم المواطن قطعة أرض على الورق، يشيد عليها بناية بعد أن يستدين أو يصفّي مدخراته، ثم يكتشف أنه لا كهرباء ولا مياه ولا طرق ممهدة، وإن وُجدت فهي غير مكتملة أو غير قادرة على خدمة الكثافة المتوقعة.

 

بهذا يتكبّد صاحب الأرض خسارة مزدوجة: عقار لا يمكن بيعه بسهولة في سوق راكد ومضارب، ولا يمكن السكن فيه فعليًا، لتتحول «فرصة العمر» إلى عبء ثقيل، بينما تظل الدولة قد قبضت المقدمات والأقساط بالدولار، بلا التزام سياسي أو أخلاقي برد الحقوق.

 

من حق السكن إلى مضاربة بالدولار

 

الباحث العمراني يحيى شوكت وغيره من المتخصصين يحذرون من أن ما يحدث في «بيت الوطن» أخرج المشروع تمامًا من أي بعد اجتماعي، وحوله إلى ساحة استثمار ومضاربة خالصة.

 

المشتري، في الغالب، لا يبحث عن بيت عائلي، بل عن «أوفر» سريع يعيد له المقدم مع ربح مضاعف، في سوق ضبابي تسيطر عليه الدولرة وغياب الرقابة الفعالة.

 

اتجاه هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لربط أغلب هذه الطروحات بالدولار يرفع أسعار الأراضي والوحدات لمستويات فلكية، ويخلق سباقًا غير عادل بين قوة شراء المصري بالخارج أو الأجنبي من جهة، والمواطن في الداخل الذي يتقاضى دخله بالجنيه من جهة أخرى.

 

النتيجة المباشرة هي سحق ما تبقّى من حق المصريين في السكن اللائق، وتحويل الأرض إلى أداة مالية في يد الدولة والمضاربين، بدل أن تكون موردًا عامًا يُدار لصالح المجتمع.

 

مدخرات المغتربين.. ملكية خاصة أم ودائع تحت الابتزاز؟

 

رفض حكومة الانقلاب حتى الآن الاعتراف بحق من لم تُخصص لهم أراضٍ في استرداد مقدماتهم الدولارية الكاملة، وبشروط ميسّرة وشفافة، يكشف طبيعة النظرة الرسمية لمدخرات المصريين بالخارج: ليست أموال مواطنين لهم حقوق، بل خزّان عملة صعبة يُستخدم لسد عجز مزمن، بلا التزام حقيقي بالمحاسبة.

 

بدل أن تبتكر الدولة أدوات استثمار حقيقية لمدخرات المغتربين، مثل صناديق استثمار إنتاجية أو مشروعات تدر دخلًا مستدامًا لهؤلاء عند التقاعد، تصر على حشرهم في عنق زجاجة القطاع العقاري، الأكثر فسادًا واحتكارًا وتشوهًا في مصر خلال العقد الأخير.

 

بهذا يتحول «بيت الوطن» من شعار مُخادع لاستعادة المغترب إلى أحضان بلده، إلى عنوان صارخ على نموذج حكم لا يرى في المواطنين سوى مصدر دولارات، يمكن الاستيلاء على جزء من مدخراتهم بالقوانين واللوائح، ثم تركهم يواجهون وحدهم جشع السماسرة وفوضى السوق وغياب العدالة.