عندما يعلن السيسي دعمه لـ“استقرار ليبيا”، فالمقصود ليس استقرار دولة ديمقراطية موحدة، بل تثبيت سلطة عسكرية شبيهة بنموذجه في القاهرة، تُدار بالانقلابات والسجون والتحالفات الإقليمية، لا بصناديق حرة وإرادة شعبية. كل لقاء جديد مع خليفة حفتر يأتي ليؤكد أن القاهرة اختارت منذ البداية الرهان على رجل واحد وسلاح واحد في بلد يعيش حالة انقسام وحرب أهلية، بدل دعم مسار جامع يشارك فيه كل الليبيين من الشرق والغرب والجنوب. الخطاب الرسمي عن “عمق العلاقات المصرية – الليبية” ليس سوى غطاء لتحالف أمني–عسكري، يُستخدم فيه ملف الحدود والعمالة والنفط والغاز كأوراق مساومة، لا كمساحات تعاون متكافئ بين دولتين مستقلتين.
دعم حفتر: من “محاربة الإرهاب” إلى شرعنة مشروع الحرب الأهلية
اختارت سلطة السيسي منذ البداية أن ترفع لافتة “مكافحة الإرهاب” لتبرير دعمها السياسي والعسكري لحفتر، متجاهلة أن هذا الرجل قاد هجوماً عسكرياً على طرابلس، وحاول فرض نفسه حاكماً بقوة الدبابة على بلد مزقته سنوات من الصراع. بدل أن تدفع القاهرة نحو تسوية حقيقية بين الفرقاء الليبيين، انحازت إلى طرف واحد، وقدمت له غطاء إقليمياً ورسائل تشجيع بأن مشروع الحسم العسكري مقبول ومُرحَّب به. هذا الانحياز ساهم في إطالة أمد الحرب، وتعميق الانقسام الجغرافي والمؤسسي، وتحويل ليبيا إلى ساحة صراع بين محاور إقليمية، فيها المصري والإماراتي والروسي وغيرهم، بينما يدفع المواطن الليبي الثمن من دمائه واقتصاده ووحدة بلده.
“رفض التدخلات الخارجية”.. شعار للاستهلاك وإدارة النفوذ
من أكثر ما يفضح تناقض خطاب السيسي هو تكرار جملة “رفض التدخلات الخارجية وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة”، في الوقت الذي يتحرك فيه هو نفسه داخل ليبيا كفاعل خارجي منحاز لطرف على حساب آخر. الحديث عن إجلاء المرتزقة يبدو بلا أي جدية حين يُبقي النظام المصري ظهر حفتر مغطى سياسياً، ويمنحه شرعية إقليمية تفتح الباب لتدفق مزيد من السلاح والدعم من عواصم أخرى، بعضها يستخدم الشركات العسكرية الخاصة كواجهة. ما يجري هو توزيع أدوار: يُدان التدخل حين يكون لصالح خصوم المحور، ويُغض الطرف عنه بل ويُغطّى إعلامياً حين يخدم معسكر الانقلابات الذي يمثله السيسي وحلفاؤه. بهذه الطريقة تُفرغ فكرة “السيادة الليبية” من مضمونها، وتتحول إلى شعار يُرفع في البيانات الرسمية بينما تتقاسم العواصم نفوذها على الأرض.
نموذج الانتخابات عند السيسي: صناديق تُصنع نتائجها مسبقاً
حين يتحدث السيسي عن “دعم المبادرات لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة في ليبيا”، يحق لليبيين أن يقلقوا لا أن يطمئنوا. النموذج الذي قدّمه في مصر هو انتخابات شكلية خالية من المنافسة الحقيقية، تُغلق فيها السجون على المعارضين، وتُفتح الشاشات للمؤيدين فقط، وتتحول فيها الصناديق إلى مجرد إجراء شكلي يمنح الحكم العسكري شهادة مزورة بـ“الشرعية”. تصدير هذا النموذج إلى ليبيا يعني الرغبة في ولادة نسخة مستنسخة من النظام المصري في طرابلس أو بنغازي: واجهة مدنية هشة تغطي سلطة الأمر الواقع التي يفرضها السلاح والتحالفات الإقليمية، لا خياراً حراً يعبّر عن ملايين الليبيين. الخطر هنا أن تُختطف كلمة “انتخابات” لتتحول من أداة لإنهاء الحرب إلى وسيلة لتثبيت عسكرة السياسة لعقود قادمة.
السودان وليبيا: الأمن القومي ذريعة للتوسع وإطالة عمر الحكم
إقحام ملف السودان في اللقاء مع حفتر تحت عنوان “الأمن القومي المصري والليبي” يكشف كيف يستخدم السيسي الاضطرابات في دول الجوار كفرصة لتوسيع نفوذه وتثبيت نفسه لاعباً لا يمكن تجاوزه. بدلاً من دعم انتقال مدني حقيقي في السودان أو ليبيا، يتعامل النظام المصري مع هذين البلدين كحوائط صد تُدار عبر رجال السلاح والميليشيات والجنرالات، بحيث يضمن أن لا تقوم على حدوده أنظمة ديمقراطية ناجحة تفضح فشل تجربته. كل حديث عن “تسويات سلمية” يفقد معناه حين يأتي من حاكم وصل بانقلاب عسكري، ويغطي حتى اليوم قمعاً داخلياً هائلاً، ويقف في معسكر واحد مع قادة حرب في الإقليم، ثم يطالب العالم أن يصدّق أنه حارس الاستقرار وحامي الحدود.
تحالف العسكر طريق مسدود لليبيين والمصريين معاً
لقاء السيسي بحفتر ليس خبراً دبلوماسياً عادياً، بل محطة جديدة في تثبيت تحالف إقليمي يقوم على منطق: الجنرالات أولاً، والشعوب أخيراً. ما يُباع على أنه “دعم لاستقرار ليبيا” هو عملياً رهان على استمرار سطوة السلاح وتأجيل أي مصالحة وطنية حقيقية، وإبقاء ليبيا رهينة لصراعات المحاور لعشر سنوات أخرى. هذا المسار لا يخدم الليبي الذي يريد دولة موحدة، ولا المصري الذي يدفع ثمن مغامرات نظامه الخارجية اقتصادياً وسياسياً، بل يخدم فقط بقاء حفتر لاعباً في الشرق، والسيسي حاكماً في القاهرة، على حساب حلم المنطقة بأسرها في الخروج من زمن الانقلابات إلى زمن الدولة المدنية والعدالة والحرية.

