في اعتراف رسمي جديد بانهيار منظومة الطاقة وفشل سياسات "الاكتفاء الذاتي" المزعومة، تستعد حكومة الانقلاب بقيادة عبد الفتاح السيسي لطرح مناقصة عالمية ضخمة لاستيراد 100 شحنة غاز مسال خلال العام المقبل.
هذه الخطوة ليست مجرد إجراء تجاري، بل هي إعلان إفلاس لرؤية النظام الذي صدّع رؤوس المصريين لسنوات بأكذوبة "مصر مركز إقليمي للطاقة"، لينتهي الحال بالبلاد متسولة للغاز من الأسواق العالمية، وبشروط دفع تكشف عن أزمة سيولة طاحنة، وسط غياب تام للشفافية حول كيفية سداد هذه الفواتير المليارية التي ستُضاف إلى جبل الديون.
العودة إلى المربع صفر: من "الاكتفاء" إلى الاستيراد بالديون
المعلومات المسربة عن مسؤول حكومي لـ"الشرق" تكشف حجم الكارثة؛ فالحكومة تسعى لاستيراد 100 شحنة بقيمة تقديرية تصل إلى 5.4 مليار دولار، لسد الفجوة الهائلة بين الإنتاج والاستهلاك. هذا الرقم الضخم ينسف تماماً كل الدعاية التي روجت لها أجهزة النظام حول حقل "ظهر" والاكتفاء الذاتي منذ 2018. الواقع اليوم يؤكد أن سوء الإدارة والفساد في قطاع البترول حوّل مصر من دولة مصدرة للغاز إلى مستورد صافٍ يستنزف العملة الصعبة الشحيحة أصلاً، لتعود البلاد إلى "عصر الظلام" وانقطاع الكهرباء أو الاستدانة لتشغيل المحطات.
شروط "الإفلاس المقنن": الدفع بالتقسيط المريح
ما يثير السخرية والمرارة معاً هو الشروط التي وضعتها وزارة بترول الانقلاب في المناقصة المزمع طرحها في مارس المقبل. فالحكومة تطلب من الموردين السماح بسداد قيمة الشحنات بعد 6 أشهر من التوريد، مع دفع 25% فقط عند الوصول. هذه الشروط "المجحفة" تجارياً لا تعكس قوة تفاوضية، بل تفضح "خزينة خاوية" وعجزاً عن السداد الفوري. النظام يشتري الوقت ويؤجل الكارثة، مستخدماً سياسة "الديون الدوارة"، حيث يتم حرق الغاز اليوم وسداد ثمنه لاحقاً من جيوب المواطنين عبر رفع أسعار الكهرباء والوقود، أو عبر قروض جديدة تكبل مستقبل البلاد.
انهيار الإنتاج.. الحقيقة التي يخفيها النظام
الأرقام لا تكذب، وهي تعري فشل النظام. الإنتاج المحلي هوى إلى 4.2 مليار قدم مكعب يومياً، بينما الاحتياجات تتجاوز 6.2 مليار قدم وتصل إلى 7.2 مليار في الصيف. هذا العجز المخيف (حوالي 2-3 مليار قدم مكعب يومياً) ليس وليد الصدفة، بل نتيجة سنوات من إهدار الموارد، وتأخر سداد مستحقات الشركاء الأجانب، مما أدى إلى تراجع الاستثمارات وتناقص إنتاج الحقول بشكل طبيعي دون تعويض. الحكومة تعتزم مواصلة الاستيراد حتى 2030، ما يعني أن المصريين محكوم عليهم بـ 5 سنوات عجاف أخرى من استنزاف الدولار وارتهان قرار الطاقة للخارج.
أين ذهبت وعود "حقل ظهر"؟
السؤال الذي يتهرب منه النظام: أين ذهبت وعود حقل ظهر الذي قيل إنه سيجعل مصر تسبح في بحر من الغاز؟ الحقيقة المرة أن النظام استنزف الحقل بضخ جائر سريع لتحقيق "شو إعلامي" سريع، ما أدى إلى تدهور إنتاجيته مبكراً. الآن، وبدلاً من تصدير الغاز وجلب العملة الصعبة، باتت مصر تلهث خلف "توتال" و"شل" لاستيراد شحنات بأسعار عالمية مرتفعة (بحد أقصى 54 مليون دولار للشحنة)، ليدفع المواطن البسيط فاتورة هذا الفشل من قوت يومه وخدماته الأساسية.
خاتمة: دوامة فشل لا تنتهي
إن لجوء حكومة الانقلاب لهذه المناقصة الضخمة بشروط الدفع المؤجل هو دليل جديد على أن النظام لا يملك أي حلول جذرية للأزمات التي صنعها بيده. سياسة "ترقيع" العجز بالاستيراد والديون لن تحل أزمة الطاقة، بل ستفاقمها، وستجعل مصر رهينة لتقلبات الأسواق العالمية وشروط الموردين. الأزمة ليست في "نقص الغاز" بقدر ما هي في "نقص الكفاءة والنزاهة" لدى من يديرون البلاد، والذين حولوا الثروات إلى ديون، والوعود إلى سراب.

