في مشهد يعكس بوضوح هيمنة العقلية العسكرية على مفاصل الدولة الاقتصادية، جاءت تصريحات اللواء جمال عوض، رئيس الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، لتشعل غضب الشارع المصري وتنكأ جراح ملايين المتقاعدين. التصريحات التي اعتبر فيها رفع الحد الأدنى للمعاشات إلى 7000 جنيه أمراً "مستحيلاً"، متسائلاً بتبجح "هنجيب فلوس منين؟"، لم تكن مجرد زلة لسان، بل كشفت عن عقيدة راسخة لدى نظام الانقلاب ترى في أموال المودعين "غنيمة" مستباحة، وفي حقوق المواطنين عبئاً يجب التخلص منه، بينما تفتح خزائن الدولة على مصراعيها لامتيازات العسكريين دون حساب أو رقابة.

 

لواء على رأس "التأمينات": عسكرة الفشل الاقتصادي

 

أثار تعيين لواء عسكري لإدارة ملف اقتصادي واكتواري بالغ التعقيد مثل التأمينات الاجتماعية تساؤلات مشروعة حول جدوى هذا النهج الذي يتبعه النظام الحالي. فبدلاً من الاستعانة بخبراء الاقتصاد وعلوم المخاطر، يصر النظام على "عسكرة" المؤسسات المدنية، مما أدى إلى إدارة أموال المعاشات بعقلية "الأوامر العسكرية" لا بعقلية الاستثمار وتنمية الموارد.

 

وفي هذا السياق، انتقد المحامي والناشط عمرو عبد الهادي هذا التناقض الصارخ، مشيراً إلى أن اللواء الذي يتقاضى الملايين من صفقات ومشاريع الجيش يستكثر على المواطن البسيط حياة كريمة، قائلاً بلهجة ساخرة: "لما واحد عسكري لواء شغال رئيس هيئة التأمينات بيقبض ملايين... طالع يقول مش هنزود الحد الادنى للاجور الى 7000 جنيه هنجيب منين!!". وأضاف أن هذا الكلام ينسف ادعاءات السيسي المستمرة حول تحسين الأجور، واصفاً إياها بالأكاذيب.

 

سرقة القرن: أموال المودعين في مهب الريح

 

تتعامل حكومة الانقلاب مع أموال التأمينات وكأنها ميزانية دولة وليست "أمانات" خاصة بالمواطنين تم اقتطاعها من عرقهم وكدهم لسنوات. ويشير المراقبون إلى أن النظام استولى على هذه الأموال لتمويل مشروعاته الفاشلة وسد عجز الموازنة، تاركاً الصناديق "مفلسة اكتوارياً".

 

وعلق الناشط رمضان البدري على "تويتر" منتقداً ازدواجية المعايير، حيث يجمع المسؤولون العسكريون بين معاشاتهم الضخمة ورواتب مناصبهم المدنية، بينما يُحرم المواطن من الفتات. وقال: "النظام بقيادة السيسي وجمال عوض سرقوا أموال المعاشات.. اصحاب المعاشات الذين أفنوا أعمارهم فى خدمة بلدهم وخرجوا ليجدوا معاشات ضئيلة لا تلبى أبسط ضرورات الحياة".

 

نظام "طبقي" بامتياز: مواطن "درجة عاشرة" وجنرال "ممتاز"

 

ترسخ تصريحات اللواء عوض حقيقة الطبقية الفجة التي يدير بها الانقلاب البلاد. فبينما يواجه المدنيون "خط الفقر" الذي يتجاوز 4000 جنيه بمعاشات هزيلة (حد أدنى 1755 جنيهاً في 2026)، يتمتع العسكريون بمعاشات وامتيازات لا تخضع لأي "حد أقصى" ولا يُسأل عن مصادر تمويلها.

 

وهو ما أكده حزب "تكنوقراط مصر" في تعليقه، معتبراً تصريح اللواء "صفعة على وجوه ملايين المصريين"، مشيراً إلى أن تساؤل "الفلوس هتيجي منين؟" لا يُطرح أبداً عندما يتعلق الأمر بامتيازات الضباط. وأضاف الحساب: "لم نسمع مسئولًا يتساءل عن مصادر تمويل معاشات الضباط... لأن المدني في نظر الدولة درجة عاشرة، بينما العسكري المواطن الممتاز".

 

فشل استثماري وتضخم يلتهم الحقوق

 

من الناحية الفنية، أوضح الصحفي طارق سلامة أن الكارثة تكمن في طريقة إدارة الأموال، حيث تُستثمر في أدوات دين حكومية بعائد أقل من معدلات التضخم الجنونية التي تسببت فيها سياسات النظام، مما يعني تآكل القيمة الشرائية للمعاشات يومياً.

 

وأكد أن احتكار جهة واحدة (يرأسها عسكري) لهذا الملف المعقد هو وصفة للخراب، ناصحاً الشباب بعدم الاعتماد على "معاش الدولة" والبحث عن بدائل للادخار، لأن "الدنيا اللي جاية أصعب".

 

 

إن أزمة المعاشات في مصر ليست مجرد أزمة أرقام، بل هي جريمة سياسية واقتصادية مكتملة الأركان، يُمارس فيها النظام "البلطجة" على أموال الشعب، ليطعم بها فئة محدودة من المنتفعين، بينما يترك ملايين المسنين يواجهون الجوع والمرض تحت شعار "مافيش فلوس".