في حلقة جديدة من مسلسل الإدارة العشوائية للموارد والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، كشفت وزارة البترول في حكومة الانقلاب عن تخبط واضح في إدارة ملف الطاقة، عبر إعلانها تقليص واردات الغاز الطبيعي المسال بشكل حاد ومفاجئ.
هذا القرار، الذي تحاول الحكومة تسويقه على أنه استجابة لانخفاض الاستهلاك، هو في حقيقته دليل دامغ على فشل ذريع في التخطيط المسبق، وعجز مالي يدفعها لتقليص فاتورة الاستيراد بأي ثمن، حتى لو عنى ذلك تعريض أمن الطاقة للخطر والارتهان بشكل أعمق للغاز الإسرائيلي والتنازل عن ثروات البلاد للشركات الأجنبية.
إدارة "اليوم بيومه": تأجيل الشحنات يفضح غياب الرؤية
أعلنت وزارة البترول عن خفض وارداتها من الغاز المسال لشهرَي ديسمبر ويناير بنسبة هائلة بلغت 56%، حيث تم الاكتفاء بسبع شحنات شهرياً مقارنة بـ 16 شحنة تم استلامها في نوفمبر الماضي. كما تم تأجيل 25 شحنة إلى الربع الأول من عام 2026، في خطوة تكشف عن إدارة تعمل بمنطق "اليوم بيومه" وليس وفق استراتيجية طويلة الأمد.
وتسوق الحكومة مبرر "تحسن درجات الحرارة" وانخفاض الطلب من وزارة الكهرباء. لكن هذا المبرر الواهي لا يستر سوى عورة الفشل في التنبؤ والتخطيط؛ فهل يُعقل أن دولة بحجم مصر تبني خططها للطاقة على أمل اعتدال الطقس؟ إن هذا التخبط في تقدير الاحتياجات من شهر لآخر لا يعكس سوى حالة من الارتباك والعجز عن وضع خطط واقعية، ويضر بسمعة مصر في أسواق الطاقة العالمية، مما قد يفرض عليها شروطاً أسوأ في التعاقدات المستقبلية. كما أن وضع شحنتين تحت بند "الاحتياج الطارئ" هو اعتراف ضمني بأن الوضع هش وأن أي عطل في موارد الغاز الأخرى قد يدخل البلاد في أزمة فورية.
فاتورة الدولار المرهقة: نزيف العملة الصعبة مستمر
على الرغم من تقليص الواردات، لا تزال فاتورة الطاقة تستنزف ما تبقى من العملة الصعبة في البلاد. فتكلفة الشحنات الـ 14 التي سيتم استيرادها في ديسمبر ويناير تتراوح بين 700 و770 مليون دولار. هذا الرقم الضخم لشهرين فقط يؤكد حجم العبء الذي يفرضه الاعتماد على الاستيراد على اقتصاد منهار بالفعل ومثقل بالديون.
إن سعي الحكومة المحموم لـ "تقليص فاتورة الواردات" ليس سياسة اقتصادية رشيدة، بل هو إجراء اضطراري يعكس نفاد الخيارات والعملة الصعبة. والأكثر مدعاة للقلق هو الحديث عن "مساعٍ" للحصول على أسعار مخفضة في 2026، وهو ما يظهر أن الحكومة لا تملك عقوداً طويلة الأجل بأسعار مستقرة، بل تخضع لتقلبات السوق الفورية، وتأمل في الحصول على صفقات أفضل كحل مؤقت لأزمة هيكلية عميقة.
تنازلات سيادية: الارتهان للغاز الإسرائيلي و"حوافز" مهينة للشركات
يكشف هيكل إمدادات الغاز عن حقيقة مرة، وهي حجم الارتهان للخارج. فبينما يتم خفض شحنات الغاز المسال، تعتمد مصر على استيراد 1.1 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الإسرائيلي، مما يجعل أمن الطاقة المصري رهينة في يد تل أبيب، في وقت تتصاعد فيه التوترات الإقليمية. هذا الاعتماد يمثل خطيئة استراتيجية وتفريطاً في السيادة الوطنية.
وفي الوقت نفسه، وبدلاً من تمكين الإنتاج الوطني، تلجأ الحكومة إلى تقديم ما تسميه "حوافز" للشركات الأجنبية، وهي في حقيقتها "تنازلات" مهينة. فالسماح لهذه الشركات بتصدير حصة من الإنتاج لسداد مستحقاتها المتأخرة لدى الحكومة يعني أن ثروات مصر الطبيعية تُستخدم لسداد ديون خلقتها سياسات النظام الفاشلة. إنها دائرة مفرغة من الاستدانة والتفريط في الموارد، حيث يتحول الإنتاج المحلي من أداة لتحقيق الاكتفاء الذاتي إلى مجرد وسيلة لسداد الديون للم الشركاء الأجانب، بينما يبقى المواطن هو من يدفع الثمن النهائي لهذا التخبط والارتهان.

