في الوقت الذي لا تكف فيه ألسنة مسؤولي حكومة مصطفى مدبولي عن ترديد الشعارات المستهلكة حول "تحسين المعيشة" و"خفض الأسعار" –والتي باتت نكتة سمجة في أوساط المصريين– تأتي الأفعال على الأرض لتؤكد الحقيقة المرة: هذه الحكومة لا ترى في المواطن سوى "ماكينة دفع"، ولا تتردد في سحقه بقرارات تعسفية حتى لو كان ذلك عبر مؤسسات دينية يفترض فيها الرحمة.
آخر فصول هذه المأساة جاء من وزارة الأوقاف، التي قررت فجأة أن تلعب دور "المرابي العقاري"، رافعة إيجارات الأراضي الزراعية بشكل جنوني، لتتحول من "ناظر وقف" يرعى مصالح المسلمين إلى "سيف مسلط" على رقاب صغار المزارعين، مهددة بتهجيرهم من أراضيهم وتجريف ما تبقى من الأمن الغذائي المصري.
قفزات جنونية في الإيجارات: من 18 إلى 55 ألف جنيه!
تحت غطاء كثيف من المبررات الواهية حول "سد الفجوة السعرية" و"تعظيم الريع"، شنت هيئة الأوقاف المصرية هجمة شرسة على جيوب المزارعين. الوزارة زعمت في بياناتها الوردية أن الإيجارات الجديدة لن تتجاوز 45 ألف جنيه، لكن الواقع على الأرض كان صادمًا ومكذبًا لهذه الادعاءات.
في محافظات كالقليوبية والشرقية، فوجئ المزارعون بقفزات سعرية وصفوها بـ "العبء التعجيزي"؛ حيث ارتفع إيجار الفدان من 18 ألف جنيه ليصل في بعض المناطق إلى 55 ألف جنيه دفعة واحدة! . هذا الارتفاع الفاحش يعني عمليًا أن وزارة الأوقاف قررت "مصادرة" 50% من أرباح المحصول لصالح خزينتها، متجاهلة تمامًا الارتفاع الجنوني في تكاليف الإنتاج (أسمدة، تقاوي، سولار) الذي يطحن الفلاح يوميًا.
خديعة "تصحيح الأوضاع": بيع الوهم وتخريب الزراعة
تحاول الوزارة تجميل وجهها القبيح بالادعاء بأنها شكلت لجانًا وقسمت الأراضي لفئات (ممتازة، جيدة.. إلخ)، وأن أسعارها لا تزال "أقل من السوق". لكن هذا المنطق التجاري البحت يكشف عن خلل جوهري في رؤية الدولة لوظيفة الأوقاف. الأراضي الموقوفة ليست "مولًا تجاريًا" لتطبق عليها معايير السوق المتوحشة، بل هي أصول ذات بعد اجتماعي وتنموي.
عندما تعامل الأوقاف الفلاحين البسطاء –الذين ورثوا زراعة هذه الأرض كابرًا عن كابر– بمنطق "التاجر الشاطر"، فإنها تنسف الغاية الشرعية والاجتماعية للوقف، وتتحول إلى أداة إفقار بدلًا من أن تكون أداة إسناد للضعفاء. إن الحديث عن "مراعاة صغار المزارعين" هو كذب صريح تفضحه الإيصالات الجديدة التي تجبر الفلاحين على الاختيار بين أمرين أحلاهما مر: إما السجن بسبب الديون، أو ترك الأرض وبوارها.
تهديد الأمن الغذائي: الدولة تحارب القمح!
لا تتوقف كارثية هذا القرار عند حدود "خراب بيوت" المزارعين، بل تمتد لتهدد الأمن القومي الغذائي في الصميم. فمع هذه الإيجارات الفلكية، لن يجد المزارع جدوى من زراعة المحاصيل الاستراتيجية منخفضة الربحية مثل القمح والذرة، وسيضطر مجبرًا للتحول إلى زراعات "سريعة الربح" أو حتى هجر الزراعة تمامًا .
هذا يعني ببساطة أن وزارة الأوقاف تساهم بقراراتها "الغاشمة" في تعميق أزمة الغذاء، وزيادة فاتورة الاستيراد، ورفع أسعار الخضار والفاكهة على المستهلك النهائي. إنها سياسة "الأرض المحروقة" التي تمارسها الحكومة بامتياز: ترفع تكاليف الإنتاج، ثم تشتكي من التضخم الذي صنعته يداها!
الوجه الحقيقي للحكومة: لا رحمة للفقراء
إن توقيت هذه القرارات –في ظل موجات تضخم غير مسبوقة وأزمات معيشية طاحنة– يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن حكومة مدبولي "منفصلة عن الواقع" وعديمة الحس السياسي والاجتماعي. بدلاً من أن تتدخل الدولة لدعم الفلاح الصامد في وجه الأزمات، ترسل إليه وزارة الأوقاف لتشاركه في رزقه وتشاطره قوت عياله.
هذا النهج الجبائي يكشف أن الحكومة الحالية لا تملك أي حلول إبداعية للأزمة الاقتصادية سوى "مد اليد" إلى جيوب الفقراء والمستضعفين. إنها حكومة لا ترحم، ولا ترى، ولا تسمع أنين الناس، بل تمضي في طريقها لسحق الطبقات الكادحة تحت عجلات "الإصلاح المزعوم" الذي لم يذق الشعب منه سوى المرار.
الخلاصة: إن ما تفعله الأوقاف هو "حرام شرعًا" و"جريمة سياسية" و"انتحار اقتصادي". فمن لا يزرع لا يأكل، ومن يحارب الفلاح في أرضه، يحكم على شعبه بالجوع.

