في خطوة جديدة تؤكد تحول الدولة من "حارس للمال العام" إلى "سمسار عقاري" يتاجر بأصول الوطن التاريخية، كشف مصدر مطلع أن الحكومة تستعد لطرح "مزاد مفتوح" على مستثمري الخليج للاستحواذ على أجمل وأهم ما تبقى من متنفس للمصريين: كورنيش النيل. تحت لافتة "التطوير" البراقة، تخطط السلطة لطرح أراضٍ تمتد من روض الفرج شمالًا وحتى التبين جنوبًا، لإقامة أبراج سكنية وفنادق فاخرة تحجب النيل عن عيون الفقراء، وتكرس ملكية الواجهة النهرية للأثرياء والمستثمرين الأجانب.
إن ما يحدث ليس تطويرًا، بل عملية "تجريف" ممنهجة لذاكرة القاهرة، حيث تُهدم المسارح والجامعات والنوادي النقابية العريقة لتفسح المجال لـ "الخرسانة الاستثمارية" التي لا تخدم سوى جيوب قلة منتفعة، بينما يُحرم المواطن العادي من حقه في رؤية نيله الذي يملكه بحكم التاريخ والجغرافيا.
الخليج يشتري "الواجهة": عروض سعودية وإماراتية وكويتية
لم يعد خافيًا أن الحكومة تسعى لاهثة وراء "الدولار الخليجي" لسد عجز موازنتها المنهارة، حتى لو كان الثمن بيع واجهة العاصمة. المصدر الحكومي أكد صراحة أن الحكومة تدرس حاليًا عروضًا "مغرية" من مستثمرين سعوديين وإماراتيين وكويتيين للمشاركة فيما يسمى "مشروع تطوير كورنيش النيل" .
الهدف المعلن هو إضافة 8 آلاف غرفة فندقية لاستيعاب السياح، لكن الحقيقة المرة هي تحويل النيل إلى "منطقة محرمة" على المصريين، حصرية لنزلاء الفنادق وسكان الأبراج الفارهة. الحديث عن أن الأراضي "لن تُباع" بل ستطرح بحق انتفاع هو "تلاعب لفظي" مكشوف؛ فمن يمتلك حق الانتفاع لعقود طويلة هو المالك الفعلي، ومن يقرر شكل العمران هو من يدفع، لتتحول القاهرة التاريخية تدريجيًا إلى نسخة مشوهة من مدن لا تشبه هويتنا ولا تراعي احتياجات شعبنا.
بلدوزرات "التطوير" تدهس الثقافة والتاريخ
لكي ينجح هذا المخطط الاستثماري، كان لا بد من إزالة كل ما يعترض طريقه، حتى لو كانت صروحًا ثقافية وتعليمية لها رمزيتها في وجدان المصريين. وفقًا للخطة الحكومية، ستنطلق موجة جديدة من الإزالات الشرسة على امتداد الكورنيش، استكمالًا لمسلسل الهدم الذي بدأ في أكتوبر الماضي وطال المسرح العائم، وحديقة أم كلثوم، ونادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، وكلية السياحة والفنادق .
إن اعتبار رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أن هذه الأراضي "مستغلة كجراجات" أو بشكل لا يتناسب مع قيمتها، هو تبرير سطحي يخفي نية مبيتة لتسليع كل شبر في العاصمة. كيف يمكن مساواة مسرح عريق أو صرح جامعي بـ "جراج"؟ إنها عقلية "المقاول" التي لا ترى في المباني إلا قيمتها السوقية، ولا تفهم معنى "الأصل العام" كقيمة اجتماعية وثقافية لا تقدر بثمن.
غضب مكتوم: نواب وفنانون يصرخون "أوقفوا الهدم"
لم تمر هذه الجريمة دون مقاومة، وإن كانت "مقاومة الصرخة الأخيرة". فقد انتفضت النائبة مها عبد الناصر بطلب إحاطة فضحت فيه التناقض الصارخ بين شعارات الحكومة عن "بناء الإنسان" وبين ممارساتها في هدم المؤسسات الثقافية . كما وقع فنانون ومثقفون بيانات تناشد بوقف المجزرة التي تتعرض لها معالم القاهرة، لكن يبدو أن صوت "البلدوزر" أعلى من صوت الثقافة، وأن قرار البيع قد اتخذ بالفعل في غرف مغلقة لا يدخلها إلا الجنرالات والمستثمرون.
إن تحويل المباني الحكومية المطلة على النيل إلى فنادق، وإخلاء الأندية النهرية التي كانت متنفسًا للنقابات والطبقة الوسطى، هو رسالة واضحة: "القاهرة لم تعد لكم".
الاستثمار في "الخراب": من أجل من؟
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: من المستفيد الحقيقي من هذا "التطوير"؟ هل المواطن الذي يعاني من انقطاع الكهرباء وغلاء الأسعار بحاجة إلى فنادق 5 نجوم لا يملك ثمن دخولها؟ أم أن المستفيد هو المستثمر الأجنبي الذي سيجني الأرباح بالعملة الصعبة ويحولها للخارج؟
الحكومة تتحدث عن "تعظيم الاستفادة الاقتصادية"، لكن الواقع يؤكد أنها تبيع أصول الدولة لتمويل ديونها، في دائرة مفرغة من الفشل الاقتصادي. إن التفريط في كورنيش النيل ليس مجرد قرار تخطيطي خاطئ، بل هو جريمة في حق الأجيال القادمة التي سترث مدينة بلا روح، ونهرًا محجوبًا خلف أسوار الفنادق، وذاكرة وطنية سحقتها جنازير المعدات الثقيلة.

