في ظل فشل ذريع لمنظومة التعليم في مصر، يجد مئات الآلاف من التلاميذ أنفسهم محاصرين بين نارين: ثانوية عامة "كابوسية" تتغير أنظمتها كل عام كأنها حقل تجارب، وتعليم فني "منبوذ اجتماعياً" يُروّج له كبديل دون أن يُعالج عيوبه الهيكلية.
نظام الانقلاب، الذي أفلس تعليمياً واقتصادياً، يحاول الآن "تصريف" أبناء الفقراء نحو التعليم الفني تحت شعارات براقة عن "احتياجات سوق العمل"، بينما يُبقي أبواب الجامعات الخاصة والأهلية الباهظة مفتوحة على مصراعيها لأبناء الأغنياء، في تكريس فاضح للتمييز الطبقي.
"البكالوريا المصرية".. نظام جديد لشراء النجاح بالمال
لم يعد سراً أن كل وزير تعليم جديد يأتي بـ"فلسفة" مختلفة، ليجد التلاميذ أنفسهم ضحايا تجارب عشوائية لا تنتهي. آخر هذه "الابتكارات" كان إطلاق نظام البكالوريا الجديد، الذي يتيح للطلاب إعادة الامتحانات مقابل رسوم مالية. هذا النظام، الذي يُسوّق له على أنه "فرصة ثانية"، هو في الواقع آلية لشراء النجاح بالمال، إذ يصب حصرياً في مصلحة الفئات القادرة، بينما يُحرم الفقراء من هذا "الامتياز".
الرسالة واضحة: في عهد الانقلاب، التعليم لم يعد حقاً، بل سلعة تُباع وتُشترى. من يملك المال يستطيع إعادة الامتحانات حتى يحصل على المجموع الذي يريده، أما الفقير فعليه أن يقبل بما قُسم له، أو يتجه إلى "التعليم الفني" الذي تُزيّنه الحكومة بخطابات إعلامية فارغة.
2.25 مليون تلميذ في "المسار الثاني".. تهميش ممنهج
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن 2.25 مليون تلميذ يدرسون في التعليم الفني (صناعي وتجاري وزراعي)، موزعين على أنظمة ثلاث وخمس سنوات. هذا العدد الضخم يعكس حجم الفشل في استيعاب الطلاب ضمن منظومة تعليمية متكافئة، ويكشف أن السلطة تستخدم التعليم الفني كـ"مكب نفايات" لاستيعاب من لا تستطيع توفير مقاعد جامعية لهم في التعليم الحكومي.
المفارقة أن النظام يتحدث عن "احتياجات سوق العمل"، بينما الواقع يقول إن معظم خريجي التعليم الفني يعانون البطالة أو يعملون في مهن لا تمت بصلة لتخصصاتهم، وذلك لأن المناهج عتيقة، والتدريب العملي شبه معدوم، والشراكات مع القطاع الخاص محدودة ولا تخدم سوى نخبة ضيقة من المدارس "التكنولوجية التطبيقية" التي تُستخدم للدعاية الإعلامية فقط.
"وصمة العار".. مجتمع ينظر للتعليم الفني بازدراء
رغم كل الحديث الرسمي عن "تطوير التعليم الفني"، لا يزال المجتمع المصري ينظر إلى طلابه نظرة دونية، باعتبارهم "فاشلين" لم يحصلوا على درجات تؤهلهم للثانوية العامة. هذه النظرة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة عقود من إهمال هذا القطاع وعدم ربطه بسوق عمل حقيقي يحترم خريجيه ويمنحهم رواتب ومكانة اجتماعية لائقة.
الطالبة "يمنى أيمن" عبّرت عن ندمها العميق على دخول التعليم الفني، مؤكدة أن التجربة "قاسية"، وأن قائمة الكليات المتاحة لخريجيه "محدودة" ولا تفتح آفاقاً مستقبلية. كذلك، أشار الطالب "كريم أشرف" إلى أن معظم فرص العمل تشترط الحصول على الثانوية العامة، ما يطرح سؤالاً جوهرياً: ما جدوى المدارس الفنية إذا كان سوق العمل نفسه يرفض خريجيها؟
"تجارب فاشلة".. أولياء أمور يروون الكارثة
الأم "ميادة عادل" روت تجربتها المريرة مع إدخال ابنتها إلى مدرسة فنية، واصفة إياها بـ"السيئة للغاية". دفعت مصروفات باهظة، وأخضعت ابنتها لاختبارات ومقابلات مرهقة، لتجد في النهاية أن الفتاة جلست في المنزل دون فائدة حقيقية، كما لو أنها لم تدرس من الأساس. هذه ليست حالة فردية، بل هي واقع يعيشه آلاف الأسر التي خُدعت بوعود كاذبة عن "مستقبل مشرق" لأبنائها في التعليم الفني.
شراكات وهمية وحلول مستوردة لا تُطبّق
يقترح الخبراء، مثل الدكتور محمد عبد العزيز، إنشاء مدارس فنية بالشراكة بين وزارتي الصناعة والتعليم، على غرار ما كان معمولاً به في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كما يدعو إلى التعاون مع دول حققت طفرات صناعية مثل الصين، وإرسال بعثات تعليمية للخارج. لكن هذه المقترحات تظل حبراً على ورق، لأن النظام الحالي غير معني بإصلاح حقيقي، بل يكتفي بالشعارات الإعلامية والافتتاحات "الكرتونية" لمدارس تطبيقية لا تستوعب إلا نسبة ضئيلة من الطلاب.
الأستاذ عاصم حجازي يشير إلى أن مدارس التكنولوجيا التطبيقية "ساهمت في تخفيف الضغوط"، لكن ما لا يُقال هو أن هذه المدارس محدودة العدد، وتخضع لشروط قبول صارمة، ولا تخدم سوى شريحة محظوظة، بينما الغالبية الساحقة من طلاب التعليم الفني يدرسون في مدارس مهترئة بمناهج عتيقة ومعلمين يفتقرون للتدريب.
مستقبل مسروق وجيل ضائع
ما يحدث في منظومة التعليم المصرية جريمة بحق جيل كامل. النظام يدفع بأبناء الفقراء نحو "تعليم فني" منبوذ ولا يوفر لهم مستقبلاً، بينما يفتح أبواب الجامعات الخاصة والأهلية لأبناء الأثرياء. العملية برمتها تكرّس الطبقية، وتحوّل التعليم من سلم للحراك الاجتماعي إلى أداة لتثبيت الفوارق الطبقية. إذا استمر هذا النهج، فإن مصر تُنتج جيلاً محبطاً، فاقداً للأمل، محروماً من حقه في تعليم جيد يليق بإنسانيته وطموحاته.

