في "جمهورية الجباية" التي أسسها قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، لم يعد الاستثمار مغامرة، بل أصبح انتحاراً بطيئاً. الأرقام لا تكذب، ولا تجامل، ولا يمكن اعتقالها؛ القوائم المالية المجمعة لشركة عملاقة مثل "دومتي" للصناعات الغذائية كشفت عن كارثة حقيقية: انخفاض الأرباح بنسبة مرعبة بلغت 94% خلال النصف الأول من 2025. هذا الانهيار المدوي ليس حالة فردية، بل هو انعكاس مباشر لمناخ اقتصادي مسموم، خنقته القرارات العشوائية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وتدهور القوة الشرائية للمواطن. عندما تنهار أرباح شركة بحجم "دومتي" من 241 مليون جنيه إلى 14 مليوناً فقط في عام واحد، فنحن أمام إعلان رسمي عن وفاة الصناعة الوطنية، وانضمام عملاق جديد إلى طابور الـ 70 ألف شركة التي أغلقت أبوابها أو تعثرت في زمن "الإنجازات الوهمية".
أرقام الكارثة: من 241 مليوناً إلى "الفكه"
البيانات المالية التي أرسلتها الشركة للبورصة المصرية هي وثيقة إدانة لسياسات الحكومة. تحقيق 14.66 مليون جنيه أرباحاً في ستة أشهر، مقابل 241.06 مليون جنيه في نفس الفترة من العام الماضي، يعني أن الشركة فقدت كل هامش ربحيتها تقريباً. هذا التآكل العنيف ليس نتاج سوء إدارة من الشركة، بل نتاج بيئة عمل مستحيلة؛ فالعملة المحلية فقدت قيمتها، والمواد الخام المستوردة تضاعفت أسعارها، والضرائب والرسوم التي تفرضها الدولة لا تتوقف. النتيجة الحتمية هي أن الشركات الكبرى باتت تعمل "للخسارة" أو للبقاء على قيد الحياة فقط، وليس للنمو والتوسع.
رفع الأسعار: المواطن يدفع الفاتورة مرتين
لم تجد "دومتي" مفرّاً من نقل عبء الكارثة إلى المستهلك النهائي. قرار رفع سعر "الباتيه" من 10 إلى 12 جنيهاً هو محاولة يائسة لتعويض الخسائر، لكنه في المقابل يمثل ضغطاً إضافياً على "ساندوتش الغلابة". المواطن المصري، الذي يعاني أصلاً من تآكل دخله، يجد نفسه الآن مطالباً بدفع ثمن فشل الحكومة في إدارة الاقتصاد، وثمن محاولات الشركات للنجاة. هذه الزيادة السعرية ستؤدي بالضرورة إلى مزيد من الركود، حيث سيعجز قطاع أوسع من المستهلكين عن الشراء، لندخل في حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار وانخفاض المبيعات، وهو ما ظهر جلياً في تراجع مبيعات الشركة من 4.34 مليار إلى 4.25 مليار جنيه.
انهيار المبيعات: عندما يجوع الشعب تتوقف المصانع
تراجع المبيعات هو المؤشر الأخطر. في بلد يبلغ تعداده أكثر من 100 مليون نسمة، يُفترض أن تكون شركات الأغذية هي الأكثر استقراراً ونمواً. لكن عندما تتراجع مبيعات الغذاء، فهذا يعني أن الشعب بدأ يقلص "أكله وشربه". سياسات الإفقار الممنهج التي يتبعها السيسي، من رفع الدعم وغلاء الخدمات، سحبت السيولة من جيوب الناس، وجعلت السلع الأساسية "رفاهية" للكثيرين. الركود التضخمي الذي يضرب السوق المصري هو النتيجة الطبيعية لسياسة "تجفيف منابع الرزق" التي تمارسها الدولة، والتي حولت ملايين المصريين من مستهلكين فاعلين إلى فقراء ينتظرون الإعانات.
بيئة طاردة: 70 ألف ضحية لـ "اقتصاد العسكر"
ما يحدث لـ "دومتي" هو مشهد متكرر في آلاف المصانع والشركات. الحديث عن تعثر 70 ألف شركة ليس رقماً عابراً، بل هو كارثة اقتصادية واجتماعية تعني تشريد ملايين العمال وخراب ملايين البيوت. النظام الذي يزاحم القطاع الخاص بشركاته العسكرية المعفاة من الضرائب، ويفرض الإتاوات المقننة على المصنعين، ويحبس الدولار عن المستوردين، هو المسؤول الأول والأخير عن هذا الخراب. لا يمكن لصناعة وطنية أن تنمو في ظل منافسة غير شريفة مع "الجيش"، وفي ظل سياسات نقدية متخبطة تجعل التخطيط للمستقبل ضرباً من الخيال.
الانهيار الكبير قادم
أرقام "دومتي" هي جرس إنذار أخير. إذا كانت الشركات الكبرى والراسخة تترنح وتفقد 94% من أرباحها، فما هو حال الشركات الصغيرة والمتوسطة؟ نحن نسير بسرعة الصاروخ نحو انهيار صناعي شامل، لن ينفع معه "مسكنات" القروض ولا "شو" المؤتمرات الاقتصادية. الحل الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه هو رفع يد الدولة الثقيلة عن الاقتصاد، ووقف سياسات الجباية، وإعادة الاعتبار للمواطن كـ "مستهلك" وللمصنع كـ "منتج"، بدلاً من التعامل معهم كـ "فرائس". لكن في ظل استمرار العقلية الأمنية التي تدير الملف الاقتصادي، يبدو أن مصير "دومتي" وغيرها سيكون الإغلاق أو البيع لمستثمر أجنبي يشتري "جثة" الصناعة المصرية برخص التراب.

