في مشهد يلخص بامتياز العقلية التي تُدار بها مصر في "الجمهورية الجديدة"، خرج اللواء جمال عوض، رئيس الهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية، بتصريح صادم يعكس انفصالاً تاماً عن الواقع واستخفافاً بمعاناة الملايين. بعبارة "مفيش فلوس علشان أزود المعاشات.. أجيب منين؟ مش معقول واحد كان بيدفع اشتراك 2300 جنيه عايز معاش 7000 جنيه"، أسقط الجنرال القناع عن نظام يرى في المواطن مجرد "دفتر شيكات"، متجاهلاً أن فلسفة التأمين الاجتماعي في العالم أجمع تقوم على التكافل واستثمار الأموال لضمان حياة كريمة، لا على "المحاسبة البقال" التي يتبعها العسكر.
 

 

"عسكرة" المنصب: عندما يدير "الكاكي" ملفات الاقتصاد

 

تصريح اللواء عوض ليس زلة لسان، بل هو نتاج طبيعي لسياسة "عسكرة الدولة" التي ينتهجها نظام الانقلاب. فالرجل ليس خبيراً اقتصادياً ولا اكتوارياً، بل هو لواء جيش تدرج في المناصب المالية العسكرية من سلاح الشؤون المالية إلى إدارة التأمين والمعاشات بالقوات المسلحة، قبل أن يُكافأ بمنصب مدني حساس يدير فيه أموال ملايين المدنيين. هذه الخلفية العسكرية تجعله ينظر لملف المعاشات بمنظور "الانضباط المالي" العسكري الصارم، حيث الأوامر تُنفذ والميزانيات تُحسب بالمليم، بعيداً عن أي بُعد اجتماعي أو إنساني.

 

لقد تحولت الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي في عهده إلى "ثكنة" إدارية، مهمتها الأولى تحصيل الاشتراكات وتقليص النفقات، بدلاً من تنمية أموال المودعين واستثمارها بشكل يعود بالنفع عليهم. وكما علق أحد المراقبين بمرارة: "سيادتك ده مش تخصصك، ولهذا أنت متواجد في المكان الخطأ.. وطبعاً دي مشكلة مصر.. اختيار أهل الثقة وليس أهل الخبرة"

 

 

أين ذهبت أموال التأمينات؟.. السرقة المقننة

 

السؤال الذي يهرب منه اللواء عوض وكل أركان النظام هو: أين ذهبت أموال التأمينات التي استقطعت من عرق المصريين لعقود؟ الحقيقة المرة هي أن الدولة "استولت" على هذه الأموال واستخدمتها لسد عجز الموازنة وتمويل مشاريع "الفنكوش" التي لا تدر عائداً، وبدلاً من ردها لأصحابها مع عوائد استثمارية حقيقية، تكتفي الحكومة بجدولة ديونها للهيئة على مدى 50 عاماً!.

 

عندما يقول اللواء "مفيش فلوس"، فهو يعترف ضمنياً بفشل الدولة في إدارة هذه الأموال. ففي النظم المحترمة، يتم استثمار أموال التأمينات في صناديق سيادية تدر أرباحاً ضخمة تغطي التضخم وزيادة المعاشات. أما في "دولة الجباية"، فتُصرف الأموال ثم يُقال للمواطن: "أجيبلك منين؟".

 

"إهانة" كبار السن.. سياسة ممنهجة

 

ردود الفعل الغاضبة على منصات التواصل لم تكن بسبب ضياع المال فقط، بل بسبب "الإهانة". فحديث اللواء يحمل نبرة استعلاء وتوبيخ، وكأن المعاش "منحة" أو "صدقة" من جيب الجنرال، وليس حقاً أصيلاً للمواطن دفع ثمنه سنوات من عمره. هذه اللغة الفوقية هي السمة الغالبة لمسؤولي الانقلاب، الذين يتعاملون مع الشعب باعتباره "عبئاً" يجب التخلص منه، وليس مصدراً للسلطة والشرعية.
الشكاوى المتوالية من أصحاب المعاشات تكشف عن واقع مأساوي؛ تدني في القيمة الشرائية للمعاش، تأخر في الصرف، وتعقيدات بيروقراطية، بينما ينعم كبار المسؤولين (وعلى رأسهم العسكريون) بمعاشات ومكافآت خيالية لا تخضع لنفس المعايير التقشفية التي يُطالب بها الفقراء

 

دولة "الضباط" لا تعرف العدالة

 

إن تصريح اللواء جمال عوض ليس مجرد زلة، بل هو كاشف لطبيعة النظام الحالي: نظام يديره ضباط لا يفقهون في الاقتصاد سوى "الجباية"، ولا يرون في الشعب سوى "رعايا" يجب أن يدفعوا ويموتوا في صمت. مشكلة المعاشات في مصر لن تُحل بتغيير لواء بآخر، بل بإنهاء "عسكرة" المناصب المدنية، واستعادة أموال التأمينات المنهوبة، وإدارة الملف بعقلية اقتصادية استثمارية تحترم كرامة الإنسان، لا بعقلية "الكتيبة" التي ترى في المطالبة بالحقوق "تمردًا" يجب قمعه.