كثيرًا ما يصيبنا الذهول عن خطورة المسألة التربوية، وخصوصًا الجانب التأسيسي منها؛ فطفل اليوم هو مسئول الغد. ومن هنا يبرز الشيخ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في كتابه الإسلام وهموم الناس، جسامة مسئولية دوائر التربية التي يتقلب فيها النشء، بدءًا بالأسرة، ومرورًا بالمدرسة، فالشارع، وانتهاءً بالدولة المؤطرة لقنوات التربية المختلفة. وتشمل هذه القنوات وسائل إعلام متنوعة على تعدد محتوياتها وحمولتها، وعلاقات اجتماعية واقتصادية، وممارسة سياسية.
الأسرة: النواة الأولى والخطر الداهم
ولعل أهم هذه الدوائر على الإطلاق هي (دائرة الأسرة)، التي أشار إلى خطورتها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء. قال أبو هريرة -وهو راوي الحديث-: واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم:30).
فالأسرة تمثل النواة الأولى لتخريج الإنسان الصالح، إلا أننا نلحظ أنها في أوطاننا معطلة، مهملة، من كل توجيه إلا ما ندر جدًا. فانكمشت وظيفتها في الإيواء، والإطعام، والمداواة، والكسوة، والدفع إلى المدرسة في أحسن الحالات. هذا على وجود تربية عكسية تدرب بصرامة على الخنوع، وقبول القمع والاستبداد، واتهام النفس في كل حال، بحق وبغير حق؛ فالأب يستبد بالجميع، والأم بعده، والذكور بالإناث، ثم الكبير فالكبير. وحتى مناهج التعليم، ومنذ الكتاب، تعطى المشروعية العليا فيها للعنف والرعب، وليس للتفهيم والأخذ بالحسنى.
الشارع وانعكاسات الفراغ التربوي
أضف إلى ذلك انحسارًا في الجانب التنظيري والتخطيطي، الذي من المفروض أن تضطلع به الدوائر المختصة في الأمة، والتي ترصد لها الميزانيات -قلت أم كثرت- من أجل هذا الغرض. يمر ذا إلى الشارع، فيؤطره بأسلاك الخوف ونزعات استعمال القوة بكل أصنافها، من محسوبية، وجاه، ومال، وكيد، وغيرها، مما يتجلى في كل أنماط العلاقات السائدة في المجتمع، أفقية وعمودية. الأمر الذي يجعله عقيمًا، لا ينتج الأحرار المتميزين الذين يعرفون المعروف وينكرون المنكر. فيفضي ذلك إلى اندحار المجتمع ورسوخه في أوحال العبودية. إذ حين يغيب هذا الصنف من الناس، الذي يستدرج بين جنبيه دين الأمم ونسغها الحضاري وهويتها وذاكرتها، يحصل الانزلاق نحو السراب، وتصبح هذه الأمم أحاديث، وتمزق كل ممزق. يقول تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) (هود:116-117).
نحو استراتيجية تربوية شاملة
فضروري إذن أن تبلور وسائل تربوية تربي الناس جميعًا، بمختلف مستوياتهم العمرية والاجتماعية والعملية، وتوظف كل القنوات المتاحة من إعلام، وسياسة، ومنتديات ثقافية، وممارسات اقتصادية، ومؤسسات اجتماعية في سبيل ذلك. وهي قنوات ينبغي أن ترشد، وأن يضبط التعامل معها استراتيجية مستوعبة، يكون وضعها بعد دراسة وبحث مستوفيين، حتى تعمل هذه القنوات بتناسق وتكامل، وليس بتنافر وتعارض؛ لأن ههنا أخطر منطلقات الحياة في أمة من الأمم، وهو منطلق التربية والتنشئة والتوجيه.
الإنسان هو الحل: رؤية بيجوفيتش
يقول الرئيس المسلم، علي عزت بيجوفيتش: (إن القرآن يشتمل على مبدأ، وهو مبدأ مشترك للأديان الكبرى جمعاء، بأن المجتمع إنما يمكن تنظيمه عن طريق الإنسان، وبأنه ليس باستطاعة القوانين -وحتى الشرائع السماوية- إقامة مجتمع مثالي بين الناس الفاسدين خلقيًا... إن إصلاح المجتمع إنما يمكن أن يقوم على أساس الإيمان بالله، والتسليم بحكمه، وعن طريق تربية الإنسان، فعلينا أن نسلك هذه السبيل الوحيدة المؤدية إلى الهدف المنشود).
بهذا فقط يمكن أن نضحى قادرين على تعليم الناس الحرية بمفهومها الإسلامي، وتعليمهم قيمها، وفضيلة الدفاع عنها، والموت في سبيلها. وبهذا فقط يمكن أن تصبح تربيتنا قادرة على تخريج أحرار يعيشون هذه الحرية -المنحة الإلهية- ويحترمونها. وتصبح تربيتنا أيضًا قادرة على تعليم الناس أنهم إخوة، وأن التكافل بينهم واجب مأجورون عليه من لدن الله. وإلا فإن الخطاب التعليمي المحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبني هموم الناس، المقتصر على التحديث دون المرور إلى التربية، لن يجدي كثيرًا؛ لأنه لن يجد النفوس التي تحمله، وتحيا به، وله.

