بعد مرور 130 عاماً على إنشائها كأحد قلاع الفقه المستنير في العالم الإسلامي، تقف "دار الإفتاء المصرية" اليوم في مشهد بائس، وقد جُردت من استقلاليتها ووقارها العلمي لتتحول إلى مجرد "إدارة علاقات عامة" تابعة للنظام العسكري.

 

هذه المؤسسة التي كانت يوماً ما حكماً بين الحاكم والمحكوم، وملجأً للمصريين في دينهم، باتت في قائد الانقلاب عهد عبد الفتاح السيسي رأس حربة في مشروع "تأميم الدين" وتوظيفه لشرعنة القمع وتبرير الفقر، في انقلاب ناعم أطاح بقرون من التقاليد الأزهرية الراسخة.

 

الانقلاب القانوني: فصل الرأس عن الجسد

 

لم يكن استيلاء السيسي على دار الإفتاء وليد الصدفة، بل جاء عبر هندسة تشريعية خبيثة بدأت محاولاتها الجادة في 2020 وتكللت بالنجاح لاحقاً. الهدف الأساسي كان "سلخ" دار الإفتاء عن جسد الأزهر الشريف (المؤسسة الأم المستعصية نسبياً على التدجين الكامل)، وإلحاقها مباشرة برئاسة مجلس الوزراء، أي تحويل المفتي من "عالم يختاره العلماء" إلى "موظف حكومي" بدرجة وزير يأتمر بأمر الجنرال.

 

هذا المسار تجلى بوضوح في تجاوز هيئة كبار العلماء مراراً، وتمديد ولاية المفتي السابق شوقي علام بقرارات رئاسية "استثنائية"، وصولاً إلى تعيين الدكتور نظير عياد في أغسطس 2024، في خطوة أكدت أن معيار الاختيار لم يعد "الأعلمية" بل "الولاء المطلق" والمواءمة مع التوجهات الأمنية للدولة.

 

"فقه التبرير": الدين في خدمة الجباية

 

تحت قيادة المفتين المعينين من السلطة، تحولت الفتاوى من "بيان للحكم الشرعي" إلى "بيانات سياسية" مدفوعة الأجر. برز هذا فيما يمكن تسميته بـ"فقه التبرير الاقتصادي"، حيث سارعت الدار لإصدار فتاوى تفصيلية تشرعن قرارات الحكومة الكارثية.

 

ففي ذروة الأزمات الاقتصادية، وبدلاً من الانحياز للفقراء، خرجت الدار لتحلل "فوائد البنوك" بشكل قاطع لامتصاص السيولة، وتدعو المواطنين للتقشف والصبر على "الابتلاء"، بينما تغض الطرف عن بذخ القصور الرئاسية وإهدار المليارات في مشاريع فنكوشية.

 

وصل الأمر حد "ليّ أعناق النصوص" لتحريم الاحتكار فقط عند التجار الصغار، وتجاهل احتكار "الجيش" للسلع الاستراتيجية، في ازدواجية فجة أفقدت المصريين الثقة في أي فتوى تصدر عن مؤسسة باتت ترى في رضا الحاكم مقدمة على رضا الله.

 

شيطنة المعارضة: المفتي بزي "وكيل النيابة"

 

أخطر ما في هذا التحول هو استخدام الدار كأداة للبطش السياسي. فقد لعبت دار الإفتاء دور "المحلل الشرعي" لأحكام الإعدام المسيسة، حيث صادق المفتي السابق على إعدام المئات من المعارضين بناءً على تحريات أمنية ملفقة، دون أن يمارس دوره الحقيقي في التدقيق الفقهي في حرمة الدماء.

 

ولم تكتفِ الدار بذلك، بل تبنت خطاباً تكفيرياً مبطناً تجاه المعارضة السياسية، واصفة الخروج على الحاكم بـ"الخروج على الملة" أو "إثارة الفتنة"، موظفة نصوص "طاعة ولي الأمر" في غير موضعها لترهيب المواطنين من أي حراك سلمي يطالب بالعيش والحرية، لتصبح بذلك ذراعاً أمنياً يرتدي العمامة والجبة.

 

معركة تكسير العظام مع الأزهر

 

كان السيسي يدرك أن "شيخ الأزهر" هو العقبة الأخيرة أمام سيطرته الكاملة على المجال الديني، لذا استخدم دار الإفتاء كـ"رأس حربة" في معركته ضد المشيخة. تم تضخيم دور المفتي إعلامياً وبروتوكولياً على حساب الإمام الأكبر، ومحاولة خلق "مرجعية موازية" أكثر طواعية وخضوعاً. ورغم مقاومة الأزهر لهذه المحاولات، إلا أن الواقع يفرض نفسه: دار الإفتاء اليوم هي "صوت السلطة"، بينما الأزهر يحاول بصعوبة الحفاظ على ما تبقى من "صوت الدين".

 

مؤسسة بلا روح

 

بعد 130 عاماً، لم يبقَ من دار الإفتاء المصرية سوى اللافتة والمبنى. أما الروح والمصداقية، فقد اغتيلت يوم ارتضى القائمون عليها أن يكونوا "ترزية فتاوى" يفصلون الدين على مقاس الجنرال. إن الخاسر الأكبر ليس فقط هيبة المؤسسة، بل الدين نفسه الذي بات الشباب ينفرون منه بسبب هؤلاء "الكهنة الجدد" الذين جعلوا من الإسلام غطاءً للظلم والقهر.