جاءت تصريحات وزير النقل المصري الفريق كامل الوزير الأخيرة لتضع إطاراً أكثر وضوحاً للسياسة المصرية تجاه موانئها البحرية وقناة السويس، في ظل جدل واسع أثارته الاتفاقيات الاستثمارية التي أُبرمت خلال العامين الماضيين مع شركات أجنبية، خصوصاً من الإمارات والسعودية. وفي مداخلة إعلامية تناول فيها مستقبل الموانئ المصرية، حرص الوزير على تأكيد أن «مصر لا تبيع أصولها القومية»، وأن ما يجري هو شراكات مبنية على حقوق الانتفاع طويلة الأمد تستهدف تطوير البنية البحرية وتعزيز قدرة البلاد على المنافسة في سوق الشحن العالمي الذي يشهد تغيرات سريعة.

 

تأكيد السيادة: “لا بيع.. ولا تفريط في قناة السويس أو الموانئ”

 

استهل الوزير حديثه بنفي قاطع لكل ما تردد عبر منصات التواصل وبعض التحليلات الاقتصادية حول نية الحكومة نقل ملكية أي من الموانئ المصرية، مؤكداً أن الدولة «لن تبيع ما تملكه للأجيال القادمة»، وأن قناة السويس تحديداً «خط أحمر» لا يجوز الاقتراب منه. وأوضح أن جميع الاتفاقيات الأخيرة مع مستثمرين أجانب تعتمد على نموذج «حق الانتفاع»، وهو نظام متعارف عليه دولياً في إدارة الموانئ الضخمة.

 

وبحسب الوزير، فإن هذه التعاقدات تمنح المستثمر حق تشغيل المحطة أو الميناء لفترة محددة—قد تصل إلى 15 أو 50 عاماً وفق كل مشروع—لكن ملكية الأرض والمرفق تبقى بالكامل في يد الدولة. وأكد أن هذه الصيغة تضمن لمصر الحصول على استثمارات ضخمة دون استنزاف موازنتها أو التفريط في أصول استراتيجية.

 

حقوق الانتفاع كبديل للتمويل التقليدي

 

في سياق توضيح سبب اعتماد هذا النموذج، قال الوزير إن تطوير الموانئ يتطلب مليارات الدولارات، وهو ما لا يمكن توفيره من خلال التمويل الحكومي وحده، خاصة مع توسع الدولة في مشروعات قومية ضخمة في مجالات النقل واللوجستيات والطاقة. لذلك يأتي التعاون مع الشركات العالمية ليحقق معادلة مزدوجة: ضخ استثمارات أجنبية مباشرة، ونقل خبرات تشغيل حديثة تضاهي الموانئ العالمية.
وأشار الوزير إلى أن الاستثمار في إدارة وتشغيل الموانئ يحقق عوائد كبيرة للدولة على شكل رسوم، ومشاركة في الأرباح، وخلق فرص عمل، وتطوير بنية تحتية باقية بعد انتهاء مدة الانتفاع، وهو ما يرفع من القيمة الاقتصادية للأصول البحرية المصرية.

 

هل تهدد الممرات البديلة قناة السويس؟

 

تطرّق كامل الوزير إلى ما يثار من مخاوف بشأن تأثير الممرات العالمية الجديدة—سواء البرية أو البحرية—على مكانة قناة السويس. وشدد على أن القناة ما تزال قادرة على استيعاب أكبر الناقلات في العالم، وأن أي بدائل برية أو خطوط قطارات لا يمكن أن تنافس حجم الشحن الذي تمرره القناة.

 

وضرب مثالاً قائلاً إن «السفينة العملاقة تمر بالقناة حاملة 24 ألف حاوية دفعة واحدة»، بينما أقصى قدرة لقطار حديث لا تتجاوز 100 حاوية. وهو فارق كبير يجعل قناة السويس، بحسب قوله، الخيار الأكثر كفاءة في العالم، مهما ظهرت طرق بديلة.

 

كما أشار إلى أن تحديثات القناة المستمرة وخطط التوسعة المستقبلية تجعلها جاهزة لاحتياجات التجارة العالمية، خاصة مع نمو تجارة آسيا وأوروبا.

 

ميناء شرق بورسعيد: من أرض رخوة إلى إنجاز استراتيجي

 

استعرض الوزير تجربة إنشاء ميناء شرق بورسعيد باعتبارها مثالاً على قدرة الدولة على تجاوز التحديات الهندسية والاقتصادية. وذكر أن المشروع واجه عقبات ضخمة، على رأسها الطبيعة شديدة الليونة للتربة، والتي تسببت في غوص المعدات الثقيلة وعدم استقرار الهياكل الإنشائية في بداية العمل.

 

لكن بتوجيه مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي، جرى تنفيذ حلول هندسية غير تقليدية، حيث تمت معالجة التربة بالكامل قبل البدء في مرحلة البناء الفعلي. واعتبر الوزير أن الميناء اليوم يمثل نموذجاً عالمياً في الهندسة البحرية، ومركزاً مهماً لاستقبال خطوط الشحن الكبرى.

 

وأشار إلى أن وجود هذا الميناء ضمن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس يعزز موقع مصر كمركز لوجستي دولي قادر على جذب استثمارات المصانع التي تعتمد على التصدير.

 

توسع التعاون مع المستثمرين الخليجيين

 

شهدت السنوات الأخيرة توقيع عدد من اتفاقيات حق الانتفاع مع شركات إماراتية، أبرزها مجموعة «موانئ أبوظبي»، التي حصلت على حقوق تشغيل وتطوير ثلاث محطات بحرية في موانئ سفاجا وشرم الشيخ والغردقة لمدة 15 عاماً. ويهدف هذا التعاون إلى تطوير مرافق اليخوت والسياحة البحرية، إلى جانب رفع كفاءة الخدمات اللوجستية.

 

كما تم توقيع عقد تطوير منطقة «كيزاد شرق بورسعيد» بنظام حق الانتفاع لمدة 50 عاماً، ليكون مركزاً صناعياً ولوجستياً ضخماً، ضمن خطة مصر لتحويل ضفتي القناة إلى أكبر منطقة اقتصادية في الشرق الأوسط.

 

ويؤكد الوزير أن هذه الاستثمارات تسهم في تحقيق أهداف الدولة دون التنازل عن الملكية، وأن الشراكات الخليجية تأتي في إطار ثقة متبادلة ورغبة في دعم التكامل الاقتصادي بين الدول العربية.

 

استراتيجية شاملة للتنمية البحرية

 

يرى الوزير أن تطوير الموانئ المصرية لا يقتصر على جذب الاستثمارات التشغيلية، بل يتضمن تحديث المعدات، وتوسعة الأرصفة، وتعميق الممرات الملاحية، وربط الموانئ بشبكة طرق وسكك حديد حديثة. وتعمل الدولة على إنشاء موانئ جافة ومراكز لوجستية داخلية لتسهيل حركة البضائع من وإلى الموانئ البحرية.

 

وأشار إلى أن مصر تستهدف التحول إلى مركز إقليمي لتجارة الطاقة، وخاصة الغاز والبترول، عبر تطوير موانئ متخصصة ومخازن عملاقة، مما يعزز حضورها في سوق النقل البحري العالمي.

 

بين السيادة والانفتاح الاقتصادي

 

أكد الوزير أن نجاح أي دولة في مجال النقل البحري يعتمد على قدرتها على تحقيق التوازن بين حماية أصولها الوطنية والانفتاح على الاستثمار العالمي. وفي الحالة المصرية، يرى أن الحفاظ على ملكية الدولة للموانئ وقناة السويس مع منح حقوق انتفاع محسوبة هو الأسلوب الأمثل لضمان النمو والتطوير دون المخاطرة بالأمن القومي.

 

واخيرا فان ما توحي به تصريحات الفريق كامل الوزير بأن مصر تتحرك وفق رؤية استراتيجية تستهدف تعزيز مكانتها البحرية، مع التشديد على صون ملكية الموانئ والقناة وعدم التفريط فيها. وبينما تستفيد من خبرات واستثمارات أجنبية عبر نظام الانتفاع، تواصل الدولة العمل على تحديث بنيتها البحرية لمواجهة المنافسة المتنامية عالمياً.

 

وفي ظل التحولات الكبرى التي يشهدها قطاع النقل البحري العالمي، تبدو مصر عازمة على الحفاظ على دورها المحوري، معتمدة على مشاريع تنموية ضخمة وقرارات اقتصادية تستهدف تعظيم الفوائد دون المساس بالسيادة الوطنية.