مصطفى عبد السلام

رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"

 

في بعض دولنا العربية لا نعرف الخيط الرفيع الفاصل بين أموال الدولة وثروات كبار المسؤولين، وبين المال العام والخاص، وأحيانًا ما تتداخل الصفقات العامة مع البيزنس الخاص، ويتقاضى وزير بارز وعضو في المجموعة الاقتصادية راتبًا شهريًا ضخمًا من أحد البنوك التجارية العربية العاملة في بلده، حيث يشغل مجلس إدارته بالمخالفة للقوانين والأعراف المصرفية. لكن في المقابل نجد في الدول الغربية المال العام مقدسًا والاقتراب منه وإهداره جريمة، واستفادة المسؤول من منصبه نوع من الفساد وتضارب المصالح الصارخ الذي يستوجب المساءلة، وربما العزل من المنصب والسجن.

 

وكم قرأنا عن أسماء لكبار المسؤولين الأجانب الذين يقبعون في السجون سنوات طوال، عقب إدانتهم بتهم الرِّشا والفساد المالي والتربح وغسل الأموال واستغلال النفوذ وتلقي أموال من الخارج، وأحدث هؤلاء نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي الأسبق، وأول رئيس فرنسي يدخل السجن منذ الحرب العالمية الثانية.

 

والقائمة تطول، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت وهو أول رئيس حكومة يدخل السجن، بعد إدانته في قضية فساد، ورئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، ورئيس غواتيمالا السابق ألفونسو بورتيو، ورئيس جنوب أفريقيا السابق جاكوب زوما، وغيرهم.

 

وفي معظم دولنا العربية لا يجرؤ أحد من عامة الشعب أن يسأل مسؤولًا كبيرًا وعلى قدر من الأهمية: من أين لك هذا، في حال تضخم ثروته عقب توليه منصبه الرفيع؟ وأحيانًا لا يجرؤ أحد أن يطلب من هذا المسؤول إبراز إقرار الذمة المالية له وتحديثه من وقت إلى آخر، وإذا تحركت مؤسسة رقابية نافذة لتطرح هذا السؤال فإنه يكون مؤشرًا على أن هذا المسؤول قد فقد قوته ومنصبه، وأنه في طريقه لمغادرة الحياة العامة وربما المحاكمة.

 

وفي الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تحترم القانون، وفي مقدمتها قوانين تعارض المصالح وأخلاقيات الحكومة، وجدنا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعقب توليه منصبه في يناير الماضي لم يعد له علاقة بإمبراطوريته الاقتصادية والمالية، ولم يعد يشرف بشكل مباشر على الاستثمارات والشركات الضخمة المملوكة له، والتي تقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، حيث أسند إدارتها إلى مؤسسة مالية مستقلة، مع وضع شركاته في صندوق ائتماني، تحت إشراف أبنائه.

 

وهذا عرف أميركي مطبق على كل من يتولى منصب رئاسة الدولة منذ السبعينيات، حيث يلزمه القانون بتقديم الإفصاحات المطلوبة، ونقل أصوله ومحفظته إلى صندوق استثمار مالي يديره طرف ثالث، أو إلى إدارة مستقلة تتولى الإشراف عليها.

 

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فترامب مجبر على الكشف عن ثروته، حيث إن القوانين الأميركية صارمة في هذا الشأن، وتلزم المسؤولين بالإفصاح عن استثماراتهم في الشركات وأرصدتهم المصرفية، ومجبر كذلك على الكشف عن الاستثمارات الجديدة، والصفقات التي تبرمها شركاته خلال توليه رئاسة الولايات المتحدة.

 

أحدث مثال في هذا الشأن ما أظهرته الإفصاحات المالية، التي نشرها مكتب أخلاقيات الحكومة الأميركية أمس السبت، أن ترامب اشترى ما لا يقل عن 82 مليون دولار في سندات شركات وبلديات خلال الفترة من أواخر أغسطس حتى أوائل أكتوبر 2025. كما قامت شركاته بأكثر من 175 عملية شراء خلال تلك الفترة، وفي أغسطس الماضي أظهرت إفصاحات الجهات الرقابية عن شراء ترامب أكثر من 100 مليون دولار في السندات منذ عودته إلى الرئاسة في يناير 2025.

 

أما الإفصاح السنوي الصادر في شهر يونيو الماضي، فكشف عن أن دخل ترامب في العام الماضي 2024 من مختلف مشاريعه تجاوز 600 مليون دولار، بما في ذلك العملات الرقمية والعقارات والملكية الفكرية، والامتيازات التجارية، لتصل قيمة أصوله الإجمالية إلى 1.6 مليار دولار على الأقل.

 

ورغم ذلك الإفصاح الدوري للرئيس الأميركي يسأل الناخب عن تفاصيل استثمارات ترامب في العملات المشفرة التي عززت ثروته بشكل كبير، وهل هناك احتمال وجود تضارب مصالح بين منصبه العام كونه رئيس دولة وأنشطته الاستثمارية، خاصة أن ترامب أعلن عدة مرات دعمه لتلك العملات، وأنه يعمل على تحويل نيويورك إلى عاصمة العملات الرقمية، كما تحول في ولايته الثانية إلى عرّاب للعملات الرقمية في العالم، حيث أسس مع عائلته شبكة معقدة من الشركات العاملة في قطاع الكريبتو والعملات المشفرة.

 

بل وتخطط مجموعة ترامب ميديا لجمع ثلاثة مليارات دولار لشراء عملات رقمية مثل بيتكوين في رهان على الأصول الرقمية التي تدعمها إدارته. وروج إلى حد كبير عملته وعملة زوجته ميلينيا الرقمية، وفي مارس الماضي وقّع أمرًا تنفيذيًا لإنشاء احتياطي فيدرالي لعملة بيتكوين. كما جنى ترامب وعائلته أكثر من مليار دولار من مشاريع الكريبتو خلال عام واحد، مستفيدين من طفرة في السوق غذتها قرارات سياسية صادرة من إدارته نفسها. هذه الأرقام كلها تلفت نظر الناخب الذي من حقه أن يسأل رئيسه: من أين لك هذا حتى وإن كان يعرف مصدر تلك الأموال؟

 

الإفصاح الملزم لا يقتصر على ترامب ونائبه ووزرائه، بل ينطبق على كل من يتولى منصبًا مهمًا في الإدارة الأميركية، والجديد في هذا الشأن ما أظهره أحدث تقرير صادر عن مكتب الأخلاقيات الحكومية الأميركي، نشر أمس السبت، أن أدريانا كوغلر، التي استقالت فجأة من منصبها عضو مجلس محافظي الفيدرالي في أغسطس الماضي، انتهكت مرارًا قواعد التداول الخاصة بالبنك المركزي الأميركي، وقامت بعدة عمليات شراء وبيع لأسهم شركات فردية، خلال ما يُعرف بفترة الحظر، التي يُمنع خلالها صناع القرار من إجراء مثل هذه المعاملات، قبل اجتماعات السياسة النقدية بالبنك.

 

ويبدو أن هناك علاقة بين استقالة كوغلر من منصبها من مجلس البنك الفيدرالي، وإجراء مثل هذه المعاملات المالية في البورصة، رغم تأكيدها في نماذج الإفصاح أن هذه الصفقات تمت على يد زوجها دون علمها، وأن زوجها لم يكن يقصد انتهاك أي قواعد أو سياسات.

 

من حق الشعوب أن تعرف مصير أموالها التي هي في الأصل حصيلة الضرائب والرسوم الحكومية وإدارة المال العام. وكيف تتصرف الحكومات في تلك الأموال، هل تديرها برشد، أم تأخذ طريقها إلى الخارج حيث بنوك سويسرا والملاذات الآمنة؟