قبل أيام، نشر موقع زاوية ثالثة تحقيقًا موسعًا كشف حجم التمدد الاستثنائي لرجل الأعمال الإماراتي محمد العبار داخل السوق المصرية، حيث بات واحدًا من أبرز الفاعلين الاقتصاديين خلال العقدين الأخيرين عبر شركته العملاقة إعمار.

 

وقد تمكن العبار من الحصول على مساحات شاسعة من الأراضي المصرية تجاوزت 25 مليون متر مربع، بأسعار “رمزية” أو عبر صفقات بلا منافسة حقيقية، ما أثار أسئلة جوهرية حول غياب الشفافية ومعايير تخصيص هذه الأراضي.

 

ولا تتوقف الإشكالية عند حدود الإجراءات؛ بل تمتد إلى المخاوف المتزايدة من نفوذ غير طبيعي يتشكّل تدريجيًا مع توسع مشروعات العبار من البحر الأحمر إلى غرب الجيزة. وهنا يُطرح سؤال أساسي:

 

هل نواجه استثمارات حقيقية تسهم في تنمية الاقتصاد المصري، أم إعادة رسم هادئة للخريطة الاقتصادية لصالح النفوذ الإماراتي، خاصة أن العبار يُعدّ من المقربين لصنّاع القرار في أبوظبي؟

 

وتعزِّز المخاوفَ تقاريرُ أخرى، منها تقرير منصة متصدّقش الذي كشف قبل أيام عن مخالفات تتعلق بالضرائب وبمبدأ تكافؤ الفرص لدى شركات يمتلكها طحنون بن زايد، المستشار الأمني للإمارات، والمسيطر على 13 شركة مؤثرة في السوق المصرية بقيمة تتجاوز 4.3 مليار دولار.

 

تمدد استثماري يشمل مناطق استراتيجية

 

بحسب تحقيق زاوية ثالثة، توسعت مشروعات محمد العبار في مصر بصورة كبيرة، وشملت مناطق استراتيجية تمتد من الساحل الشمالي إلى البحر الأحمر وصولًا إلى قلب القاهرة الكبرى.

 

ومن أبرز تلك المشروعات:

 

  • مراسي في الساحل الشمالي، على مساحة تقارب 6.5 مليون متر مربع، حصل عليها بأسعار لا تعكس القيمة الحقيقية للأرض.

 

  • أب تاون كايرو بالمقطم على مساحة تتجاوز 5 ملايين متر مربع، ويعد واحدًا من أكثر مشروعات الإسكان الفاخر تأثيرًا على إعادة تشكيل النسيج العمراني في القاهرة.

 

  • كايرو جيت في امتداد الشيخ زايد، وهو المشروع الذي أثيرت حوله نزاعات قانونية انتهت بتسوية لاحقة، رغم تخصيص الأرض بسعر 200 جنيه فقط للمتر، في حين تجاوز سعره التجاري 50 ألف جنيه في مناطق مماثلة.

 

كما يمتلك العبار مشروعات أخرى في البحر الأحمر والقاهرة الجديدة رفعت إجمالي محفظته العقارية إلى ما يفوق 25  مليون متر مربع.

 

نزاعات تنتهي بتسويات.. ونمط استحواذ بلا شفافية

 

لم تكن صفقات العبار سلسة كما تبدو على الورق؛ فخلال السنوات الماضية دخل الرجل في سلسلة من الخلافات القانونية انتهت جميعها بتسويات وُصفت بأنها “ميسّرة” بشكل لافت.

 

ويكشف التحقيق عن نمط متكرر في أسلوب الاستحواذ:

 

شراكات مباشرة، غياب المنافسة العلنية، وأسعار تقل كثيرًا عن القيمة السوقية.

 

وقد تزامن هذا مع حاجة الدولة لتدفقات نقدية أجنبية، ما فتح الباب أمام عقود غير منصفة تُمرر في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة، وهو ما أدى عمليًا إلى منح العبار موقعًا استثنائيًا في هيكل السوق العقارية المصرية، ومنحه – من حيث لا تُعلن الدولة – نفوذًا إماراتيًا متناميًا في قطاعات حيوية.

 

فلسفة الاستثمار الإماراتي.. هل تخدم الاقتصاد؟

 

تشير المصادر التي استند إليها التحقيق إلى أن جوهر المشكلة لا يتعلق فقط بحجم الأراضي المستحوذ عليها، بل بنمط الاستثمار نفسه.

 

فالمشروعات الإماراتية – وعلى رأسها استثمارات العبار – تركز على المدن الفاخرة والوحدات السكنية المربوطة بالدولار، باعتبار أن الأرباح تُحوّل إلى الخارج. هذه الصيغة تخلق عدة آثار خطيرة:

 

1 - تضخيم أسعار القطاع العقاري بالكامل

 

بسبب استدامة المضاربات على المشروعات الفاخرة، ما يجعل السكن خارج قدرة الطبقة المتوسطة.

 

2 - نزيف مستمر للعملة الصعبة

 

إذ تتحول الأرباح إلى الإمارات، مما يزيد الضغط على ميزان المدفوعات ويضعف الجنيه.

 

3 - غياب القيمة الاقتصادية الحقيقية

 

فالمشروعات العقارية الفاخرة لا توفر تصنيعًا، ولا تخلق سلاسل قيمة، ولا تبني اقتصادًا إنتاجيًا، بل تولّد وظائف مؤقتة وتدوّر الثروة داخل فئة محدودة.

 

وتبدو المقارنة مقلقة إذا عدنا لتجربة الاستثمارات الإماراتية في السودان، التي اقترنت بملفات الذهب والأراضي الزراعية وارتبطت بصراعات دامية. ما يعني أن تجاهل البعد السياسي لاستثمارات العبار ليس مجرد خطأ، بل خطر استراتيجي.

 

البعد السياسي.. الحلقة التي لا يمكن تجاهلها

 

يبدو أن الدولة المصرية تتعامل مع ملف الاستثمارات الإماراتية باعتباره ملفًا اقتصاديًا بحتًا، لكن الواقع أكثر تعقيدًا.


فالعبار على علاقة وثيقة بإسرائيل، وسبق أن دعا إلى تعميق التعاون الاقتصادي معها بعد اتفاق التطبيع في 2020، وشارك في فعاليات مشتركة بين الطرفين.

 

وبالتالي فإن السؤال يصبح أكثر إلحاحًا:

 

هل توسع العبار في مصر مجرد نشاط تجاري، أم جزء من استراتيجية نفوذ إقليمي إماراتي تتقاطع مع مصالح إسرائيل في المنطقة؟

 

إن امتلاك رجل واحد 25 مليون متر مربع من الأراضي المصرية – مع نية معلنة للتوسع في منطقة وسط البلد – ليس تفصيلًا عابرًا. فالتمدد الاقتصادي يولّد لوبيات سياسية داخل الدولة، ويخلق مصالح متشابكة قد تتحول مستقبلًا إلى ضغوط على القرار المصري، خصوصًا حين تتقاطع مع أجندة إقليمية غير منسجمة مع المصلحة الوطنية.

 

وما جرى في السودان مثال صارخ على كيف يمكن للاستثمار أن يتحول إلى نفوذ، وللنفوذ أن يتحول إلى صراع.

 

خلاصة

 

تمدد العبار العقاري في مصر ليس مجرد قصة نجاح استثماري، بل فصل جديد في علاقة غير متكافئة بين دولة تبحث عن العملة الصعبة، ودولة أخرى تبني نفوذًا صلبًا عبر المال والعقار.

 

ووسط غياب الشفافية، وارتفاع تكلفة هذا التمدد على الاقتصاد والسيادة، يصبح السؤال الحقيقي: هل نحن أمام استثمار.. أم إعادة تشكيل للنفوذ الإقليمي داخل قلب مصر؟