في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وارتفاع أعباء الديون على الدولة، أطلق البنك المركزي المصري، نيابة عن وزارة المالية، الإصدار الثاني من الصكوك السيادية المحلية بقيمة 3 مليارات جنيه في 17 نوفمبر 2025.
ورغم ترويج الحكومة لهذا الطرح باعتباره خطوة استراتيجية لتنويع مصادر التمويل وجذب مستثمرين جدد، إلا أن الواقع الاقتصادي وملامح البرنامج تثير العديد من التساؤلات حول فعاليته وجدواه، بل وتحمله لشبهات "تدوير الديون" تحت عباءة الشريعة الإسلامية.
الطرح الثاني: استمرار للهروب إلى الأمام
الإصدار الثاني من الصكوك، الذي يمتد لأجل ثلاث سنوات وينتهي في نوفمبر 2028، لم يأت بجديد سوى استكمال ما بدأته الحكومة في الطرح الأول. إذ لم تعلن وزارة المالية حتى الآن عن العائد المتوقع، تاركة الأمر للمضاربة بين البنوك والمستثمرين، ما يعكس تخبطًا في التخطيط المالي واعتمادًا مفرطًا على السوق لتحديد مصير أدوات الدين.
هذه الصكوك، رغم تسويقها كأدوات "متوافقة مع الشريعة الإسلامية"، إلا أن جوهرها لا يختلف كثيرًا عن أذون وسندات الخزانة التقليدية، ما يطرح تساؤلات حقيقية حول مدى الشفافية والنية الحقيقية من وراء هذا البرنامج.
النجاح المزعوم للطرح الأول: أرقام مضللة؟
في بداية نوفمبر الجاري، طرحت الحكومة الإصدار الأول من الصكوك السيادية بقيمة 3 مليارات جنيه، وقد روج الإعلام الرسمي لهذا الطرح على أنه "نجاح مبهر"، بعدما تلقى البنك المركزي 63 عرضًا بإجمالي 14.955 مليار جنيه، ما يعني تغطية تقارب 5 أضعاف.
لكن الواقع أن هذا الإقبال لا يعكس ثقة المستثمرين في الاقتصاد، بقدر ما يعكس تعطش السوق لعوائد مرتفعة وسط تصاعد معدلات التضخم وتدهور قيمة الجنيه. فمتوسط العائد على الطرح بلغ 21.561%، وهو رقم مرتفع يكشف عن حجم المخاطر التي يرى فيها المستثمرون هذه الأدوات، ويؤكد أن الحكومة تسدد ثمن فشلها المالي من مستقبل الأجيال القادمة.
برنامج الـ200 مليار: خطة إنقاذ أم فخ ديون جديد؟
الطرح الحالي يأتي ضمن خطة طموحة – أو متهورة – لإصدار صكوك سيادية بقيمة إجمالية 200 مليار جنيه. وبينما تروج الحكومة لهذا البرنامج على أنه وسيلة لتوسيع قاعدة المستثمرين وخفض تكلفة الدين، إلا أن التجربة المصرية مع أدوات الدين المحلية تثبت العكس: فكلما توسعت الدولة في الاقتراض، ارتفعت تكلفة خدمة الدين وتقلصت المساحة المتاحة للإنفاق على التعليم والصحة والدعم.
ويبدو أن الحكومة لا ترى في هذه الصكوك إلا وسيلة "نظيفة الشكل" للغرق أكثر في دوامة الاستدانة، مستخدمة غطاء "الشريعة" لتمرير أدوات مالية لا تختلف من حيث المضمون عن القروض الربوية التي انتقدها صراحة الرئيس المصري نفسه في أكثر من مناسبة.
البنية الإسلامية... مجرد واجهة تجميلية؟
تستند هذه الصكوك إلى هيكل "الإجارة" المتوافق مع الشريعة الإسلامية، وتم تخصيص قطعة أرض في منطقة "رأس شقير" بمحافظة البحر الأحمر كأصل أساسي للطرح.
إلا أن غموض تفاصيل العقود وتكتم الحكومة على شروط الاستخدام والملكية الفعلية يطرح علامات استفهام كثيرة: هل تملك الدولة أصلًا فعليًا يُدر عائدًا حقيقيًا يغطي تكلفة الصكوك؟ أم أن هذا مجرد غطاء صوري لتفادي المعارضة الشرعية والسياسية لسياسات الاستدانة؟
توظيف أدوات الشريعة في بيئة غير شفافة قد يضعف من مصداقية هذه الآليات مستقبلًا ويضر بثقة المستثمرين في أدوات التمويل الإسلامية عمومًا.
الحاجة إلى الشفافية لا إلى المزيد من الديون
في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد المصري من شح الموارد وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، يبدو أن الحكومة اختارت الطريق الأسهل: الاقتراض المستمر لتغطية العجز وتمويل الاستحقاقات الآنية، دون النظر إلى عواقب هذا المسار الكارثي. الصكوك السيادية، رغم غلافها الإسلامي، ليست سوى وسيلة أخرى لشراء الوقت، على حساب الاستقرار المالي والاجتماعي المستقبلي.
آن الأوان أن تتحلى الحكومة بالشفافية، وتصارح الشعب بحقيقة الوضع المالي بدلًا من الترويج لصكوك لن تحل أزمة، بل قد تعمقها.

