في خضم أزمة اقتصادية خانقة تعيشها مصر، تتصدرها ندرة العملة الصعبة وارتفاع الدين العام إلى مستويات قياسية، أعلنت هيئة قناة السويس عن تحسن طفيف في عائداتها خلال الأشهر الأربعة الأخيرة بنسبة بلغت نحو 14% مقارنة بالفترة السابقة. ورغم أن هذه الزيادة تبدو مؤشرًا إيجابيًا بعد عام ثقيل من الخسائر الناتجة عن اضطرابات البحر الأحمر وهجمات الحوثيين، إلا أنها لا تغيّر الصورة الأوسع التي تكشف عن ضغوط مالية عميقة يعيشها الاقتصاد المصري.

البيان الأخير لهيئة القناة أوضح أن "الهدوء النسبي في البحر الأحمر عقب وقف إطلاق النار في غزة" ساهم في عودة حركة الملاحة تدريجيًا. فبين يوليو وأكتوبر 2025 عبرت المجرى الملاحي 4,405 سفن تحمل 185 مليون طن من البضائع، مقارنة بـ4,332 سفينة و167.6 مليون طن خلال الفترة ذاتها من العام الماضي.

لكن هذا التحسن لا يكفي لتعويض التراجع الحاد في إيرادات عام 2024، وهو الأدنى خلال خمس سنوات، حيث خسرت القناة أكثر من 800 مليون دولار بعد لجوء شركات شحن كبرى إلى طريق رأس الرجاء الصالح لتجنب مخاطر البحر الأحمر. وتُظهر البيانات أن أكثر من مئة هجوم بحري وقعت في عامي 2023 و2024، ما دفع خطوطًا عالمية مثل "MSC" و"هاباج لويد" و"إيفرجرين" إلى تغيير مساراتها بعيدًا عن القناة.

الفريق أسامة ربيع، رئيس الهيئة، تحدث بلهجة متفائلة إلى وكالة رويترز، مشيرًا إلى أن "229 سفينة عادت للعبور في أكتوبر وحده" ومؤكدًا بدء مرحلة "تعافٍ تدريجي". غير أن هذا التفاؤل يصطدم بسؤال أكبر يتردد داخل مصر: لماذا لا يلمس المواطن أي أثر إيجابي لإيرادات القناة رغم أهميتها الحاسمة في توفير النقد الأجنبي ودعم الاقتصاد؟
 

إيرادات خارج الموازنة العامة.. تاريخ من الغموض
قناة السويس، التي تمثل أحد أهم مصادر العملة الأجنبية في مصر بعائدات تتراوح عادة بين 7 و9 مليارات دولار سنويًا، لا تزال تعمل ضمن إطار مالي شديد الغموض. فعلى الرغم من حجم الإيرادات، تبقى ميزانية الهيئة منفصلة عن الموازنة العامة، وهو إرث يعود إلى سياسات مالية مستقرة منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث كانت إيرادات القناة تُحوّل إلى حسابات خاصة وصناديق غير خاضعة للرقابة البرلمانية الكاملة.

الفترة القصيرة التي شهدت إدراج إيرادات القناة داخل الموازنة العامة كانت خلال حكم الرئيس الراحل محمد مرسي (2012-2013)، حين أكد وزير المالية آنذاك ممتاز السعيد أن تلك الإيرادات ساعدت في تمويل زيادات الأجور ورفع الحد الأدنى للرواتب. كما أظهر الجهاز المركزي للمحاسبات أن القناة ساهمت في تحقيق فائض أولي محدود.

لكن هذا النهج لم يستمر طويلًا. فبعد منتصف 2013، عادت القناة إلى نظام الصناديق الخاصة، بينما تواصل الهيئة إعلان إيرادات مجملة دون تفاصيل حول بنود الإنفاق أو كيفية توجيه هذه الأموال.
 

أزمة معيشية تتوسع وإيرادات لا تصل للمواطن
تزامن غياب الشفافية مع اشتداد الأزمة الاقتصادية منذ عام 2022، وارتفاع الأسعار بمعدلات غير مسبوقة، وفرض الحكومة ضرائب ورسومًا جديدة. ورغم اعتماد الدولة المتزايد على القروض الخارجية، لا يظهر أن عائدات القناة تُستخدم بشكل مباشر في تخفيف الضغط على المواطنين أو دعم الموازنة.

الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق يؤكد أن استمرار إدارة موارد القناة عبر "صناديق موازية" يعطل قدرة الدولة على مواجهة الأزمة، مضيفًا أن "توجيه الإيرادات بشفافية يمكن أن يغطي جزءًا كبيرًا من الديون قصيرة الأجل". في المقابل، تدافع الحكومة عن استقلال الهيئة، معتبرة أن مرونتها المالية ضرورية لتمويل مشروعات التطوير والتوسعات، بينما يرى مراقبون أن هذا الاستقلال يتحول في الواقع إلى غطاء لغياب المحاسبة.

وتتزايد المخاوف بعد تداول حديث رسمي حول تأسيس صندوق سيادي خاص بهيئة القناة، يُدار بمعزل عن وزارة المالية، ما قد يعمّق الفجوة بين الإيرادات والدولة.
 

تحولات الإيرادات: قراءة تاريخية
البيانات التقريبية التالية توضح مسار الإيرادات خلال العقدين الماضيين:

الفترة متوسط الإيرادات السنوية (دولار) ملاحظات
2005 – 2010 4.5 – 5.2 مليار معظم الإيرادات خارج الموازنة وخاضعة للرئاسة
2012 – 2013 5.1 – 5.3 مليار دخلت بالكامل في الموازنة وساهمت بتحسين الأجور
2014 – 2020 5.5 – 5.8 مليار عودة الصناديق الخاصة وغياب الرقابة التفصيلية
2021 – 2023 7.0 – 8.6 مليار أعلى إيرادات في تاريخ القناة قبل التراجع
2024 نحو 5.5 مليار انخفاض شديد بسبب اضطرابات البحر الأحمر

 

 

 

 


 

 

الأرقام تكشف تناقضًا صارخًا: ارتفاع نسبي في الإيرادات عبر السنوات، يقابله غياب شبه كامل لأثرها المباشر على الاقتصاد الداخلي.  

 

فرصة ضائعة لإنقاذ الاقتصاد
على الورق، يمكن لإيرادات القناة أن تشكل رافعة أساسية لإنقاذ الاقتصاد المصري، سواء بدعم الاحتياطي النقدي أو تمويل مخصصات الأجور والدعم. لكن إبقاء هذه الموارد خارج الموازنة يقلل من قدرة الحكومة على إدارة الأزمة، ويثير تساؤلات حول آليات اتخاذ القرار المالي داخل الدولة.

ويرى خبراء أن إدراج الإيرادات مرة أخرى ضمن الموازنة العامة سيعزز الشفافية، ويمنح المؤسسات الرقابية دورًا أكبر، كما قد يعيد جزءًا من الثقة المفقودة بين المواطن والسلطة، ويخلق بيئة أكثر جاذبية للمستثمرين.
 

وأخيرا  السؤال الذي لا يجد إجابة
رغم التحسن الطفيف في حركة الملاحة خلال النصف الثاني من 2025، لا تزال أزمة قناة السويس أعمق من الأرقام المعلنة. فالإشكالية ليست في حجم الإيرادات، بل في غياب الوضوح بشأن كيفية إدارتها وتوجيهها، في وقت يعاني فيه المصريون من ارتفاع الأسعار وتراجع القوة الشرائية وتنامي الديون.

وبينما تستمر الهيئة في العمل ضمن منظومة مالية شبه مغلقة، يبقى السؤال مطروحًا بلا إجابة واضحة: من يراقب إيرادات قناة السويس، وإلى أين تذهب فعليًا؟