على الرغم من المحاولات الحكومية لتصوير أي رقم إحصائي كبارقة أمل، كشفت بيانات مؤشر مديري المشتريات الصادرة عن مجموعة "ستاندرد آند بورز غلوبال" لشهر أكتوبر 2025 عن حقيقة أكثر قتامة؛ فالقطاع الخاص غير النفطي في مصر لا يزال غارقًا في حالة انكماش مزمنة للشهر السابع والثلاثين على التوالي.
إن الارتفاع الطفيف في المؤشر من 48.8 إلى 49.2 نقطة لا يغير من جوهر الأزمة، حيث لا يزال المؤشر بعيدًا عن مستوى الخمسين نقطة، وهو الحد الفاصل بين النمو والانكماش. يمثل هذا الرقم استمرارًا لفشل السياسات الاقتصادية الحالية في خلق بيئة عمل صحية وقادرة على النمو، ويؤكد أن التحسن المزعوم ليس سوى تباطؤ طفيف في وتيرة التدهور، وليس بداية للتعافي.
إن هذه الأرقام هي شهادة جديدة على أن الاقتصاد المصري يدفع ثمن غياب الرؤية الحكومية الفعالة لدعم محرك النمو الرئيسي في البلاد.
انكماش هيكلي لا تخفيه الأرقام الطفيفة
يُظهر التحليل العميق لبيانات المؤشر أن الوضع لا يدعو للتفاؤل. فبينما سجل المؤشر الرئيسي أبطأ وتيرة انكماش في ثلاثة أشهر، فإن هذا التحسن الهامشي يُعزى بشكل أساسي إلى قطاع الصناعات التحويلية الذي شهد زيادة طفيفة في حجم الطلبات الجديدة.
في المقابل، واصلت قطاعات حيوية أخرى مثل الخدمات وتجارة الجملة والتجزئة والبناء تسجيل نشاط أضعف، مما يعكس هشاشة الوضع الاقتصادي العام. إن استمرار هذه القطاعات في التراجع يؤكد أن الأزمة هيكلية وليست مجرد عارض مؤقت.
وتفشل الحكومة بشكل متكرر في معالجة الأسباب الجذرية لهذا الانكماش، والتي تتمثل في ضعف القوة الشرائية للمواطنين، والقيود المفروضة على الاستيراد، والمنافسة غير العادلة من الكيانات الاقتصادية التابعة للدولة، مما يخنق القطاع الخاص ويحد من قدرته على التوسع والتشغيل.
ضغوط التكاليف تخنق الشركات وتجمد التوظيف
تكمن القصة الأكثر إثارة للقلق في تفاصيل المؤشر المتعلقة بالتكاليف. فقد ارتفعت تكاليف مستلزمات الإنتاج بأسرع معدل في خمسة أشهر، مدفوعةً بأكبر زيادة في تكاليف الأجور منذ أكتوبر 2020. هذه الزيادات لا تعكس تحسنًا في دخول العاملين بقدر ما تعكس ضغوطًا تضخمية هائلة تآكل هوامش أرباح الشركات وتضعها في موقف حرج.
وعلى الرغم من أن الشركات حاولت استيعاب جزء كبير من هذه الزيادات، مما أدى إلى تباطؤ طفيف في تضخم أسعار البيع، فإن هذا النموذج غير مستدام على المدى الطويل. هذا الوضع الخطير يفسر لماذا ظل خلق فرص العمل محدودًا للغاية، فعلى الرغم من ارتفاع معدل التوظيف للشهر الثالث في أربعة أشهر، فإن وتيرته الضعيفة تؤكد أن الشركات تكافح من أجل البقاء بدلًا من التوسع، وأن وعود الحكومة بخلق ملايين الوظائف لا تعدو كونها شعارات فارغة في ظل بيئة اقتصادية طاردة للاستثمار والنمو.
غياب الثقة في المستقبل رغم التفاؤل الحذر
حتى مؤشر التوقعات المستقبلية، الذي شهد تحسنًا طفيفًا، يخفي وراءه حقيقة مقلقة. فقد أشار التقرير إلى أن مستوى التفاؤل بين أصحاب الشركات لا يزال أقل من المتوسط طويل الأجل، مما يعني أن الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد وتحسين الظروف لم تتعافَ بعد.
هذا التفاؤل الحذر يعكس حالة من عدم اليقين والقلق بشأن المستقبل، خاصة مع تحذير خبراء "ستاندرد آند بورز"، مثل ديفيد أوين، من أن استمرار ارتفاع ضغوط التكلفة قد يؤدي إلى إبطاء النشاط مجددًا إذا واجهت الشركات صعوبة في تمرير هذه التكاليف إلى المستهلكين.
في الختام، فإن بيانات أكتوبر لا تمثل شهادة نجاح للحكومة، بل هي جرس إنذار آخر بأن القطاع الخاص المصري يقف على حافة الخطر، وأن أي محاولة لتجاهل هذه الحقائق ستؤدي حتمًا إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

