في مفارقة صارخة بين الواقع المرير الذي يعيشه ملايين المرضى في مصر والدعاية الحكومية، تتفاقم أزمة نقص الأدوية لتصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث باتت رفوف الصيدليات فارغة، والمرضى في رحلة بحث مضنية عن علاجاتهم الحيوية. وفي مشهد يعكس عمق الأزمة، لجأ بعض الصيادلة إلى بيع الأدوية "بالقرص" في محاولة يائسة لتلبية احتياجات المرضى الذين لا يجدون العبوات الكاملة، بينما تستمر الحكومة في التفاخر بخططها لجعل مصر مركزًا إقليميًا لصناعة الدواء، متجاهلة صرخات المواطنين الذين يدفعون ثمن سياسات اقتصادية وصحية فاشلة.
هذا التقرير يسلط الضوء على أبعاد الأزمة المتشعبة، كاشفًا عن جذورها الممتدة من أزمة الدولار والديون الحكومية، وصولًا إلى معاناة المرضى اليومية وتناقض الخطاب الرسمي مع الواقع الأليم في الشارع المصري.
رحلة البحث عن دواء: معاناة يومية ورفوف فارغة
تتحول رحلة البحث عن دواء في مصر إلى كابوس يومي لملايين المرضى، خاصة المصابين بأمراض مزمنة. تكشف شهادات متواترة من مختلف المحافظات عن اختفاء ما يقرب من 800 صنف دوائي أساسي من الصيدليات والمستشفيات، تشمل أدوية حيوية لعلاج الأورام، الضغط، السكري، القلب، الهرمونات، والربو. يصف المرضى رحلتهم المؤلمة بين الصيدليات بحثًا عن عبوة دواء واحدة، وغالبًا ما يعودون خائبين.
أجبر هذا النقص الحاد المواطنين على اللجوء إلى السوق السوداء، حيث تباع الأدوية بأسعار مضاعفة تفوق قدرتهم الشرائية، مما يضع حياتهم في خطر مباشر. وتفاقم الوضع مع لجوء بعض الصيدليات إلى إغلاق أبوابها بسبب عجزها عن توفير الأصناف المطلوبة أو سداد مستحقات شركات التوزيع، مما يعكس حالة من الفوضى الشاملة في قطاع حيوي يمس حياة كل مواطن.
جذور الأزمة: ديون حكومية واعتماد قاتل على الاستيراد
خلافًا للتصريحات الحكومية التي تحاول حصر الأزمة في نطاق ضيق، يؤكد الخبراء أن الكارثة أعمق من ذلك بكثير، وتعود إلى فشل هيكلي في السياسات الحكومية. تتمثل أبرز أسباب الأزمة في:
الاعتماد على الاستيراد: تعتمد صناعة الدواء في مصر بنسبة تصل إلى 95% على استيراد المواد الخام الفعالة من الخارج. هذا الاعتماد جعل القطاع رهينة لأزمة الدولار وتذبذب سعر الصرف، حيث أدى تراجع قيمة الجنيه إلى قفزات هائلة في تكلفة الإنتاج.
الديون الحكومية المتراكمة: تدين الجهات الحكومية، وعلى رأسها هيئة الشراء الموحد، لشركات الأدوية بمبالغ طائلة تقدر بنحو 32 مليار جنيه. هذه الديون شلت قدرة الشركات على استيراد المواد الخام والوفاء بالتزاماتها، مما أدى إلى تعطل خطوط الإنتاج وتفاقم النقص.
احتكار هيئة الشراء الموحد: أصبحت هيئة الشراء الموحد، بقرارات رئاسية، هي الوسيط الوحيد لشراء مستلزمات الإنتاج والأدوية المستوردة. هذا الاحتكار خلق عنق زجاجة وبيروقراطية قاتلة، وعجزت الهيئة عن تدبير العملة الصعبة وسداد الفواتير، مما دفع صناعة الدواء نحو الشلل.
شد الحبل: لعبة الأسعار بين الشركات والحكومة
في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج، دخلت شركات الأدوية في مواجهة مفتوحة مع الحكومة. صرحت غرفة صناعة الدواء بأن المصانع كانت تعمل بنسبة 20% فقط من طاقتها خلال ذروة الأزمة في عام 2024، مهددة بوقف الإنتاج إذا لم يتم رفع الأسعار لتغطية التكاليف.
ورغم أن هيئة الدواء المصرية أقرت زيادات في أسعار أكثر من 1600 صنف دوائي، وصفتها بـ "التحريك"، إلا أن شعبة الأدوية بالغرفة التجارية اعتبرت هذه الزيادات غير كافية وطالبت بزيادات دورية لمئات الأصناف شهريًا لتجنب توقف خطوط الإنتاج بالكامل. هذه "اللعبة" بين الحكومة والشركات يدفع ثمنها المريض وحده، الذي يجد نفسه بين مطرقة النقص وسندان ارتفاع الأسعار.
دعاية زائفة وأوجاع حقيقية: مفارقة المؤتمرات الدولية
في الوقت الذي يعاني فيه المواطنون من أجل الحصول على أبسط المسكنات، تنظم الحكومة مؤتمرات دولية ضخمة مثل "فارما كونكس 2025". وتهدف هذه الفعاليات، التي يغيب عنها كبار المنتجين المحليين المثقلين بالديون، إلى الترويج لمصر كمركز إقليمي لصناعة الدواء. هذا التفاخر الحكومي يمثل استخفافًا بمعاناة الملايين، ويعكس انفصالًا تامًا عن الواقع.
وتكتمل الصورة السريالية بتصريحات مسؤولين مثل رئيس شعبة الأدوية، الدكتور علي عوف، الذي أكد في يوليو 2025 عدم وجود أي نقص في "الأدوية الاستراتيجية"، وأن المخزون يكفي لمدة تصل إلى عام كامل، حاصرًا الأزمة في "بعض الأصناف المستوردة". هذه التصريحات تتناقض بشكل مباشر مع تقارير نقص 800 صنف حيوي، ومع شهادات الخبراء مثل الدكتور مدحت خفاجي، رئيس معهد الأورام الأسبق، الذي فضح حجم الديون الحكومية التي تشل القطاع. إنها سياسة دفن الرؤوس في الرمال، بينما تتسع فجوة الدواء في مصر، مهددة بكارثة صحية وشيكة

