في مثل هذا اليوم 3 نوفمبر من عام 2016، أعلن البنك المركزي المصري قرارًا تاريخيًا بتحرير سعر صرف الجنيه، فيما عُرف بقرار "تعويم الجنيه"، الذي أنهى سنوات من تثبيت العملة مقابل الدولار.
القرار الذي رُوِّج له باعتباره إصلاحًا اقتصاديًا ضروريًا لإنقاذ الاقتصاد من الاختلالات الهيكلية وجذب الاستثمارات الأجنبية، تحوّل مع مرور الوقت إلى عبء ثقيل على كاهل المواطنين، بعدما التهم التضخم مدخراتهم، وارتفعت الأسعار بصورة غير مسبوقة، وتراجعت القوة الشرائية للمصريين إلى أدنى مستوياتها في التاريخ الحديث.
بداية التعويم: وعود الإصلاح وانهيار العملة
في نوفمبر 2016، تم تحديد سعر الصرف بناءً على آلية العرض والطلب، ليفقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته في ساعات قليلة، إذ قفز سعر الدولار من نحو (8.88) جنيهات إلى أكثر من (17) جنيهًا. ومع أن الحكومة رأت في القرار خطوة نحو "تحرير الاقتصاد" و"جذب الاستثمارات"، إلا أن النتيجة الفعلية كانت موجة تضخم عنيفة تجاوزت (30%) في العام الأول، مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية والوقود والمواصلات، وتآكل الأجور الحقيقية للمواطنين.
الوعود الحكومية حينها ركزت على أن "التحرير المؤلم اليوم هو رفاهية الغد"، وأن الأسواق ستستقر مع دخول الاستثمارات الأجنبية، غير أن السنوات التالية أثبتت أن الوعود بقيت حبيسة التصريحات.
بعد تسعة أعوام: الجنيه في أدنى مستوياته
في عام 2025، وبعد مرور تسع سنوات على التعويم، يعيش الجنيه المصري واحدة من أسوأ فتراته على الإطلاق، إذ تجاوز سعر الدولار في السوق الرسمية (49) جنيهًا، بينما في السوق الموازية اقترب من (60) جنيهًا. وبهذا تكون العملة المحلية قد فقدت أكثر من (85%) من قيمتها خلال أقل من عقد، لتصبح من بين العملات الأضعف عالميًا.
الخبير الاقتصادي جلال أمين يرى أن السياسات النقدية التي اتبعتها الحكومة بعد التعويم لم تعتمد على إصلاح حقيقي للإنتاج، بل على مزيد من الاقتراض الخارجي والاعتماد على الأموال الساخنة، مما جعل الاقتصاد هشًا أمام الأزمات. ويضيف أن "ما يسمى بالإصلاح المالي تحول إلى دوامة ديون، بينما ظل الإنتاج الحقيقي يعاني من التراجع".
المواطن يدفع الثمن
منذ قرار التعويم، تضاعفت أسعار الغذاء والوقود والكهرباء والمواصلات عدة مرات. وأصبح دخل الأسرة المتوسطة غير كافٍ لتغطية الاحتياجات الأساسية، مع ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن والخبز والدواء بنسب تجاوزت (400%) في بعض السلع.
تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أشار إلى أن أكثر من (32%) من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، بينما تشير تقديرات غير رسمية إلى أن النسبة الحقيقية تعدت الـ 60%. في المقابل، لم تشهد الأجور الحكومية أو القطاع الخاص زيادات تتناسب مع التضخم، مما أدى إلى تآكل شبه كامل للطبقة الوسطى التي كانت عماد الاستقرار الاجتماعي.
الخبير الاقتصادي محمد عبد السلام يقول إن "تعويم الجنيه لم يكن إصلاحًا حقيقيًا بقدر ما كان تنازلاً سياديًا عن التحكم في العملة مقابل إرضاء المؤسسات المالية الدولية"، مؤكدًا أن المصريين لم يجنوا من القرار سوى موجات متكررة من الغلاء والديون والعجز.
استثمارات لم تأتِ.. وديون تتضخم
رغم وعود الحكومة بأن التعويم سيجذب الاستثمارات الأجنبية ويعيد الثقة في السوق المصري، إلا أن الواقع عكس ذلك. فوفق بيانات وزارة المالية والبنك المركزي، ارتفع الدين الخارجي من نحو (55 مليار دولار) عام 2016 إلى أكثر من (170 مليار دولار) في 2025، بينما لم تتجاوز الاستثمارات الأجنبية المباشرة الصافية (11 مليار دولار) سنويًا في أفضل الأحوال.
يرى الخبير المالي هشام إبراهيم أن الاعتماد على القروض والمنح بدلًا من تطوير الصناعة والزراعة جعل التعويم بلا عائد اقتصادي حقيقي، موضحًا أن "العملة لا يمكن أن تستقر دون إنتاج قوي وصادرات قادرة على جلب الدولار، وهو ما لم يتحقق".
تسعة أعوام من "الإصلاحات" بلا نتائج ملموسة
في الذكرى التاسعة للتعويم، يقف المصريون أمام حصيلة مرة:
عملة فقدت قيمتها، أسعار تضاعفت، فقر متزايد، ديون متراكمة، ووعود حكومية لم تتحقق. وبينما تصر الحكومة على أن التعويم كان "ضرورة لا بد منها"، يرى المواطن أنه كان بداية الانحدار الحاد في مستوى معيشته.
ختامًا، يبقى السؤال الذي يطرحه الشارع المصري اليوم: هل كان تعويم الجنيه خطوة إصلاح شجاعة.. أم قرارًا كارثيًا حمّل الفقراء ثمن فشل السياسات الاقتصادية؟
الإجابة تبدو واضحة في وجوه المصريين الذين يزداد فقرهم كل يوم، بينما يزداد الأغنياء ثراءً في ظل نظام اقتصادي يرفع شعار "الإصلاح"، لكنه لا يجني سوى المعاناة.

