تشهد الحدود الجنوبية للبنان توتراً متصاعداً منذ أسابيع، بعد سلسلة من الغارات الجوية والقصف المدفعي الإسرائيلي الذي طال قرى ومناطق آهلة بالسكان، في خرقٍ واضح لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم نهاية عام 2024.

ومع استمرار الانتهاكات اليومية وتبادل التهديدات بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله، تتزايد المخاوف من انزلاق الأوضاع نحو حرب شاملة جديدة قد تمتد من الجنوب اللبناني إلى العمق الإقليمي، في ظل صمت دولي وتراجع قدرة الوساطات على كبح التصعيد.
 

انتهاكات متكررة رغم التهدئة
منذ مطلع أكتوبر 2025، صعّدت إسرائيل من هجماتها داخل الأراضي اللبنانية، مستهدفة مناطق الناقورة وكفركلا وبليدا ومارون الراس، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى وتدمير واسع في الممتلكات والبنية التحتية.
الجيش اللبناني أكد أن الطائرات الإسرائيلية تخترق الأجواء اللبنانية يومياً، وتنفّذ عمليات استطلاع وقصفٍ محدود، في وقتٍ تواصل فيه القوات الإسرائيلية توغلاتها البرية داخل الأراضي الحدودية بذريعة "منع تهديدات حزب الله".

في المقابل، ردت المقاومة اللبنانية بقصف مواقع عسكرية إسرائيلية داخل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، معتبرة أن ما يجري هو انتهاك صارخ للسيادة اللبنانية ونسفٌ لأسس وقف إطلاق النار الذي رعته الأمم المتحدة.
 

أضرار إنسانية واسعة ونزوح متجدد
تسببت الغارات الإسرائيلية الأخيرة في نزوح مئات العائلات من القرى الجنوبية نحو مناطق أكثر أماناً في النبطية وصور، بينما يعيش السكان الباقون في حالة من الخوف والترقب.
وأفادت الجمعيات الإنسانية أن عشرات المنازل والمزارع دُمّرت بشكل كامل، كما تضررت شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، ما جعل الحياة اليومية شبه مشلولة.

وتحذر منظمات حقوقية من أن استمرار هذا النمط من الاستهداف العشوائي قد يؤدي إلى كارثة إنسانية جديدة، في وقت يعاني فيه لبنان أساساً من أزمة اقتصادية خانقة ونقص في الوقود والدواء والغذاء.
 

الموقف الرسمي اللبناني
الرئاسة اللبنانية حذّرت من أن استمرار العدوان الإسرائيلي يهدد بإعادة البلاد إلى أجواء الحرب الشاملة، مؤكدة أن لبنان يحتفظ بحقه في الدفاع عن سيادته وأراضيه بكل الوسائل.

وأعلن الجيش اللبناني أنه رفع حالة التأهب في صفوف وحداته المنتشرة على الحدود، بالتنسيق مع قوات الأمم المتحدة العاملة في الجنوب "اليونيفيل"، التي عبّرت بدورها عن قلقها من تصاعد وتيرة الانتهاكات، مطالبة الطرفين بضبط النفس والالتزام بالقرارات الدولية.

أما الحكومة اللبنانية فقد دعت المجتمع الدولي إلى الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها، معتبرة أن تل أبيب تحاول جرّ المنطقة إلى مواجهة جديدة لصرف الأنظار عن أزماتها الداخلية.
 

حزب الله: المقاومة جاهزة
من جهته، شدّد حزب الله في بيان له على أن "الاعتداءات الإسرائيلية لن تمر دون رد"، مؤكداً أن المقاومة جاهزة لأي سيناريو ميداني وأنها لن تسمح للاحتلال بفرض معادلات جديدة على الحدود اللبنانية.
وأشار الحزب إلى أن إسرائيل تسعى عبر هذا التصعيد إلى اختبار الجبهة الشمالية وقياس قدرة الردع اللبنانية، لكنه أكد أن أي عدوان موسّع سيقابل بردٍّ أقسى مما تتوقعه تل أبيب.

ويرى مراقبون أن تصريحات حزب الله، رغم حدتها، ما زالت محكومة بمعادلة "الردّ المحسوب"، إذ يسعى الحزب إلى تجنّب حرب شاملة في وقت يواجه فيه لبنان أزمة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة.
 

المخاوف الإقليمية والدولية
تزايدت التحذيرات الدولية من أن استمرار القصف المتبادل قد يؤدي إلى توسّع الحرب خارج الحدود اللبنانية، خصوصاً إذا تطورت المواجهات إلى تبادل صاروخي واسع أو تدخل أطراف إقليمية أخرى.

وتخشى الأمم المتحدة من أن انهيار التهدئة قد يفتح جبهة جديدة في الشرق الأوسط، تُضاف إلى ساحات التوتر في غزة وسوريا والبحر الأحمر، ما يهدد الاستقرار الإقليمي برمّته.
كما عبّرت العواصم العربية، لا سيما مصر والأردن وقطر، عن قلقها من تداعيات التصعيد، داعية إلى وقف فوري لإطلاق النار وعودة الالتزام بالاتفاقات السابقة.

في النهاية يظل هذا المشهد المعقّد، يبدو الجنوب اللبناني على فوهة بركانٍ مفتوح، إذ لم تعد الانتهاكات الإسرائيلية مجرد تجاوزات أمنية، بل مؤشرات على نيةٍ حقيقية لجرّ المنطقة إلى مواجهة جديدة.
ومع استمرار العجز الدولي عن ردع الاحتلال وغياب الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى، تبقى احتمالات الحرب الواسعة واردة في أي لحظة.

لبنان اليوم يعيش بين نارين: نار العدوان الخارجي، ونار الانقسام والضعف الداخلي. وإن لم يُتدارك الموقف سريعًا، فقد يكون الجنوب الشرارة الأولى لحربٍ لن تبقى حدودها لبنانية فقط، بل قد تشتعل معها المنطقة بأسرها.