تشهد سوق الهواتف المحمولة في مصر واحدة من أسوأ أزماتها خلال السنوات الأخيرة، بعد قرار الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات وقف الخدمة عن مئات الآلاف من الأجهزة المملوكة للمصريين والأجانب المقيمين، بدعوى مخالفة قواعد التسجيل.
الإجراء الذي شمل أكثر من 1.3 مليون هاتف سُجِّلت أكوادها دفعة واحدة قبل مطلع عام 2025، أدى إلى ارتباك شامل في السوق، وتفاقم شكاوى المواطنين والتجار، وارتفاع مخاطر الشراء من السوق السوداء، وسط اتهامات للحكومة بإدارة الملف بقرارات مرتجلة تخدم كبار الوكلاء على حساب المستهلك والمغترب.
قطع الخدمة عن هواتف مسجلة قانونًا
اتهم مواطنون جهاز مرفق تنظيم الاتصالات التابع لوزارة الاتصالات بقطع الخدمة عن هواتف أحضروها من الخارج بطريقة قانونية، بعد أن سجلوها لدى الجمارك وحصلوا على الإعفاءات المقررة.
بعضهم سدّد رسومًا جمركية رسمية لوزارة المالية، إلا أنهم فوجئوا بعد ثلاثة أشهر من تشغيل الخدمة بتوقف هواتفهم نهائيًا، وعدم صلاحيتها للاستخدام داخل البلاد.
وقدّم عدد من المحامين دعاوى قضائية ضد الجهاز، متهمين إياه بـ "القطع العشوائي للخدمات الهاتفية"، ما استدعى فتح تحقيقات شكلية داخل المرفق.
تجار وشركات توزيع أكدوا أن أخطاء تقنية وإدارية في منظومة التسجيل الجديدة تسببت في وقف خدمات أجهزة قانونية تمامًا، مما أدى إلى انكماش مبيعات التجزئة، وانسحاب المستهلكين من السوق خوفًا من التعقيدات.
كما زادت عمليات التهريب والبيع غير الرسمي للأجهزة القادمة من الخارج، وهو ما حذرت منه شعبة المحمول بالغرف التجارية، التي طالبت باعتماد اجتماع عاجل مع مسؤولي المرفق ووزارة الاتصالات لتحديد المسؤولية، ومنع ملاحقة الموزعين بتهم “التهرب الضريبي”.
أحكام قضائية وإدانة للإجراءات الحكومية
قال أحد المحامين إنه تقدم بمذكرة إلى رئيس جهاز تنظيم الاتصالات بعد قطع الخدمة عن هاتف اشتراه من الكويت حصل على موافقة جمركية لتشغيله.
وبعد تغريمه 12 ألف جنيه بشكل تعسفي، رفع دعوى أمام المحكمة الاقتصادية التي حكمت له بإعادة تشغيل الخط دون دفع رسوم.
القضية فتحت الباب أمام مئات الشكاوى المماثلة من متضررين، ما كشف غياب التنسيق بين مرفق الاتصالات والجمارك والمالية.
في المقابل، أكدت شعبة الهواتف المحمولة بالغرفة التجارية أن عشرات التجار يتعرضون للمحاكمة والحبس بتهمة “التهرب من الضرائب”، رغم أنهم قدموا شهادات رسمية تُثبت سداد الضريبة قبل بيع الأجهزة، وهو ما يدل على خلل إداري جسيم داخل منظومة التسجيل الجمركي والرقمي.
“تليفوني”.. تطبيق حكومي يخلق أزمة وطنية
كشف محمد هداية الحداد، عضو مجلس إدارة غرفة الجيزة التجارية ونائب رئيس شعبة المحمول، أن الشعبة طالبت بعقد اجتماع عاجل مع مسؤولي جهاز تنظيم الاتصالات “نترا” NTRA المشغلة لتطبيق “تليفوني”، ومع جهاز حماية المستهلك، للوقوف على حجم الأخطاء التي أوقعت مئات التجار والمستهلكين في مشكلات قانونية.
وأوضح أن التطبيق الحكومي فشل فنيًا في تسجيل الأجهزة، وأن قرارات الإيقاف تُطبّق بأثر رجعي، ما تسبب في خسائر جسيمة للشركات، وأحكام حبس بحق بعض التجار.
الحداد أكد أن الأزمة ليست مسؤولية التجار بل موظفي الجمارك والشركات المشغلة، وطالب بإنشاء نظام مرجعي رقمي واضح داخل تطبيق “تليفوني” يُمكّن من معرفة الموظف الذي سجّل الجهاز ومتابعة حالته، لضمان الشفافية ومنع تحميل التجار أخطاء ليست من اختصاصهم.
وأضاف أن تجاهل هذه الأزمة يهدد مستقبل مئات الشركات والعاملين في القطاع، وأن السوق المصري – رغم كونه من أكبر أسواق المحمول في أفريقيا – يعاني من أسعار داخلية تفوق نظيرتها العالمية بسبب الضرائب والتعقيدات الإدارية.
دعوات لتعليق الغرامات وتصحيح الأخطاء
أكد الحداد أن الشعبة بصدد إعداد مذكرة تفصيلية بالهواتف التي تم إيقافها لإرسالها إلى مصلحة الجمارك والجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، بهدف وضع آلية عادلة تحفظ حقوق التجار والمستهلكين، مطالبًا بـ تجميد قرارات الحبس والغرامات لحين تصحيح الأخطاء الإجرائية التي تراكمت خلال الأشهر الماضية.
نصائح للمغتربين وتحذيرات من الرسوم
قدّم خبير الاتصالات أشرف عامر نصائح للمصريين العاملين في الخارج بضرورة تسجيل أجهزتهم الجديدة عند الوصول للمطارات والموانئ، والحصول على إيصال الإعفاء الجمركي من مصلحة الجمارك وتأكيد التسجيل عبر تطبيق “تليفوني”.
وأوضح أن الإعفاء يُمنح لجهاز واحد فقط لكل شخص كل ثلاث سنوات، على أن تُعاد تصدير أي أجهزة إضافية بعد 90 يومًا أو تُباع كقطع غيار.
عامر أوضح أن اضطراب السوق سببه فرض رسوم جمركية بنسبة 37.5% على الهواتف منذ يناير/كانون الثاني 2025، بجانب ارتفاع الرسوم الفعلية التي تصل إلى 48% من قيمة الفاتورة.
وأشار إلى أن مئات الآلاف من الأجهزة تكدّست لدى الموزعين بعد استجابة الحكومة لضغوط وكلاء الشركات الكبرى، مما أدى إلى أزمة قانونية وتجارية طاولت شريحة واسعة من التجار والمستهلكين.
أرقام ضخمة وسوق محتكر
تشير بيانات شعبة المحمول بالغرفة التجارية إلى أن قيمة واردات الهواتف إلى مصر تتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار سنويًا، بينما يغطي الإنتاج المحلي 15% فقط من الطلب.
ويبلغ عدد مستخدمي الهواتف 72 مليون مواطن، بنسبة 65% من إجمالي السكان البالغ عددهم 110 ملايين نسمة.
كما يقدّر الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات عدد خطوط المحمول النشطة بنحو 106 ملايين خط خلال الربع الثالث من عام 2025.
هذه الأرقام تكشف حجم السوق الذي تخاطر الحكومة بتدميره عبر قرارات ارتجالية وضرائب مفرطة، في وقت تتذرع فيه وزارة المالية بتحقيق “العدالة الضريبية” وجمع 60 مليار جنيه سنويًا من الأجهزة المستوردة غير المسجلة.

