تحذيرات “وول ستريت جورنال” ومراكز الأبحاث الدولية لم تعُد تتعامل مع الدين الأميركي كرقم ضخم لكنه “تحت السيطرة”، بل كقنبلة موقوتة تقترب من مرحلة الخطر الفعلي، في وقت لا تقدّم فيه إدارة ترامب حلولًا جذرية، بل تميل أكثر إلى سياسات قصيرة المدى: خفض الفائدة، وتوسيع الاقتراض، وتجنب أي إصلاح ضريبي أو إنفاقي عميق قد يمس مصالح النخبة. السؤال اليوم لم يعد: هل للديون ثمن؟ بل: متى وكيف سيدفعه الاقتصاد الأميركي والعالم معه؟
الأرقام نفسها كاشفة: الدين العام الأميركي تجاوز في 2025 مستوى 37–38 تريليون دولار، أي ما يفوق 114 ألف دولار نصيبًا على كل مواطن، مع قفزة بتريليون دولار خلال شهرين فقط، في واحدة من أسرع زيادات الدين غير المرتبطة بالحروب أو الأوبئة في تاريخ الولايات المتحدة. خدمة هذا الدين أصبحت عبئًا هائلًا؛ فمدفوعات الفائدة السنوية alone تخطت حاجز التريليون دولار، ما يلتهم مساحة ضخمة من الموازنة على حساب الإنفاق الاجتماعي والاستثماري.
“وول ستريت جورنال” ونقاشات وول ستريت الأوسع تشير إلى أن 2025 يحمل استحقاقًا حرجًا: ديون حكومية بقيمة نحو 9.2 تريليون دولار يجب سدادها أو إعادة تمويلها في عام واحد، في بيئة أسعار فائدة أعلى بكثير مما كانت عليه لحظة إصدار هذه السندات. الخيار الواقعي الوحيد أمام واشنطن هو إعادة التمويل بفائدة مرتفعة، ما يعني تحميل الخزانة أعباء إضافية لعقود قادمة. هذا ما يفسر ضغط ترامب العلني على الاحتياطي الفيدرالي لخفض الفائدة؛ فالحكومة الأميركية اليوم هي أكبر من يحتاج هذا الخفض لتقليل تكلفة إعادة التمويل.
لكن خفض الفائدة ليس حلًا سحريًا. “وول ستريت” نفسها تحذّر من أن تقليص الفائدة لدعم الخزانة والاقتراض الحكومي قد يطلق موجة تضخم جديدة أو فقاعات أصول، ويضعف شهية المستثمرين العالميين لحيازة سندات الخزانة إذا شعروا أن العائد الحقيقي لا يعوّض مخاطر الدين المتصاعد. مع تجاوز الدين الأميركي نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي تقريبًا، وبقاء العجز السنوي فوق 6–7% من الناتج، تتراكم الإشارات السلبية حول استدامة المسار الحالي، حتى لو ظل الدولار هو العملة المهيمنة عالميًا.
سياسات ترامب المالية لا تعالج جذور المشكلة بقدر ما تعمّقها في جوانب عدة. من جهة، يستمر الإنفاق العسكري والإنفاق على البرامج الكبرى دون إصلاحات بنيوية حقيقية، ومن جهة أخرى لا يوجد استعداد سياسي لرفع كبير في الضرائب على الشركات الكبرى والفئات الأعلى دخلًا، رغم أن الولايات المتحدة تجبي ضرائب كنسبة من الناتج أقل من معظم الاقتصادات المتقدمة. “وول ستريت جورنال” وكتابات اقتصاديين أميركيين تشير إلى أن واشنطن تحتاج إلى مزيج غير محبوب سياسيًا: خفض في بعض بنود الإنفاق، وزيادات ضريبية على رأس المال والدخول العليا، وإصلاحات لنظم الرعاية. لكن ترامب يفضّل خطاب خفض الفائدة والنمو عبر “تحرير الأعمال” بدل مواجهة هذه الحقائق.
مقارنة مع بريطانيا وفرنسا تكشف أن أزمة الدين ليست أميركية فقط، لكنها في واشنطن تحمل وزنًا خاصًا بحكم أن سنداتها هي العمود الفقري للنظام المالي العالمي. في بريطانيا، يدور الدين الحكومي حول 96% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، مع توقع وصوله لنحو 97% في 2025–2026، وسط اقتصاد يعتمد بشدة على الخدمات المالية، وتحديات ما بعد بريكست، وضغوط إنفاق على الصحة والضمان الاجتماعي. هذا يعني أن لندن تعيش أيضًا على حافة دين مرتفع، لكنها لا تتحمل وحدها عبء عملة احتياط عالمية كالولايات المتحدة.
أما فرنسا، فالصورة أكثر حدة من حيث النسبة: الدين العام الفرنسي بلغ في مطلع 2025 نحو 3346 مليار يورو تقريبًا، أي حوالي 114% من الناتج المحلي الإجمالي، مع عجز مزمن وإنفاق اجتماعي كبير، واقتصاد يعاني من تباطؤ وتوترات اجتماعية. نسبة الدين إلى الناتج في باريس أعلى من المستوى الأميركي الحالي، لكن حجم الاقتصاد الفرنسي أصغر بكثير، وسنداته لا تلعب نفس الدور المحوري في النظام المالي الدولي؛ ما يجعل المخاطر محصورة أكثر داخل أوروبا، مع احتمال انتقال العدوى عبر اليورو والبنوك الأوروبية.
التشابه بين أميركا وبريطانيا وفرنسا أن الثلاثة يعيشون على نموذج “دين دائم” يمول عجزًا هيكليًا لا يتراجع إلا مؤقتًا، وأن خدمة الدين تلتهم جزءًا متزايدًا من موارد الدولة. الفارق الحاسم أن واشنطن تمتلك امتياز الدولار وعمق الأسواق المالية، ما يمنحها قدرة أكبر على تأجيل الانفجار عبر طباعة المال وجذب المدخرات العالمية. لكن “وول ستريت جورنال” وغيرها تحذر من أن العالم بدأ يتغيّر: صعود الصين وقوى أخرى، محاولات تنويع الاحتياطيات بعيدًا عن الدولار، وتصاعد النزاعات التجارية والجيوسياسية كلها عوامل قد تجعل المستثمرين أكثر حذرًا تجاه الدين الأميركي إذا استمر المسار الحالي دون إصلاح.
من هنا، يمكن القول إن الولايات المتحدة تقف عند مفترق طرق: إما أن تستغل ما تبقّى من ثقة العالم في اقتصادها ودولارها لإطلاق إصلاحات حقيقية (ضريبية، إنفاقية، اجتماعية)، أو تواصل إدارة الأزمة بمنطق “تدوير الدين” وتأجيل الفاتورة للأجيال القادمة. حتى الآن، توجهات ترامب تميل بوضوح للخيار الثاني: الضغط لخفض الفائدة، وتخفيف القيود على الشركات، والرهان على نمو أعلى يبتلع الدين نسبيًا، دون مساس جوهري بالبُنى التي صنعت العجز المتراكم.
واخيرا فان التحذيرات المتصاعدة من “وول ستريت” وصناديق النقد ليست نبوءة حتمية بانهيار فوري، لكنها إنذار مبكر بأن نموذج الدين الحالي في أميركا وبريطانيا وفرنسا يقترب من حدود طاقته. في الحالة الأميركية، خطورة الأمر مضاعفة لأن سقوط الثقة في سندات الخزانة لن يهز واشنطن وحدها، بل النظام المالي العالمي كله. ومع ذلك، لا يبدو أن إدارة ترامب مستعدة لدفع كلفة الإصلاح الحقيقي، مفضِّلةً خطاب الشعارات والقرارات السهلة على مواجهة جذور الخلل. وبينما يغرق “أقوى اقتصاد في العالم” في ديون تريليونية، يبقى السؤال مفتوحًا: متى يدرك صناع القرار أن قوة العملة والجيش لا تكفي وحدها لتأجيل ساعة الحساب المالي إلى الأبد؟

