يبدو أن العديد من المصادر تتفق على أن ما قدمه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي للمتحف المصري الكبير من ناحية التحكم المالي والإداري يعد من أكبر حالات التفريط والإهمال في تاريخ المشروع، والتي تعكس توجهات خطيرة لا تضع مصلحة الوطن والثروة الحضارية على رأس أولوياتها، وإنما تسعى لتجيير المشروع لصالح مصالح شخصية ومحسوبية.

 

السيطرة العسكرية والاقتصادية على المتحف

أولى القرارات التي أقرها السيسي كانت تحويل إدارة المتحف إلى الهيئة الهندسية للجيش، وهي خطوة تمثل توسعاً غير مسبوق في السيطرة العسكرية على القطاع المدني، وتعد محاولة واضحة لتطويع المشروع ليصبح أداة في يد الجيش، الذي ينظر إليه كمؤسسة قادرة على فرض النفوذ على جميع مفاصل الاقتصاد الوطني، بدلاً من أن يبقى مشروعاً وطنيًا يختص بالتراث والتاريخ.

هذه السياسة أدت إلى تدهور إداري، إذ تم تعطيل هيئات وآليات الرقابة المالية التقليدية كالجهاز المركزي للمحاسبات عن ممارسة أدورها بشكل كامل على أموال المتحف، وهو ما أتاح التلاعب والهدر المالي، دون رقيب أو حسيب.

 

استبدال خبراء وتهميش الكفاءات

كما ألغت الهيئة الهندسية قرار تعيين جيهان زكي، الأثرية العريقة، مديرة تنفيذية للمتحف، ما يكشف عن نهج التهميش والتسييس، ويبرز سيطرة المحسوبية على المناصب الحساسة، أياً كانت كفاءتها أو خبرتها.

هذا التوجه يهدد استقرار العمل، ويجعل من المشروع مجرد أداة لتصفية حسابات سياسية، بدلاً من أن يكون منصة علمية وثقافية تليق بتاريخ مصر الحضاري.

 

التعدي على حرم الأهرامات ومشروعات استثمارية غير محسوبة

من التعديات التي بررها خبراء بأنها كارثية، هو إقامة الممشى السياحي بين الأهرامات والمتحف، وهي خطوة تخالف الأصول التاريخية والجغرافية، وتعمل على إهدار التراث، وتشويه الموقع الأثري، بما يهدد ريادة مصر الحضارية.

وكانت هناك انتقادات حادة من متخصصين أثريين، اعتبروا أن هذه التعديات تمثل سابقة خطيرة، وأنها خطوة سياسية بامتياز تهدف لتغيير معالم المنطقة التاريخية على حساب القدسية الأثرية للموقع.

 

تكلفة هائلة وإهدار للمال العام

وفقًا لمحاضرة سابقة لزاهي حواس، فإن تكلفة المتحف ربما لن تعود على مصر بأية أرباح فعلية، حتى بعد مئات السنين.

ومع ذلك، استمر الإنفاق بلا ضوابط، وتم تخصيص موازنات ضخمة لمشاريع فرعية، وتشكيل لجان إدارية ومالية تعج بالمحسوبيات، مما أدى إلى تكريس الفساد وتضخم أعباء الميزانية العامة بشكل كبير، في ظل غياب رؤية اقتصادية واضحة تدر عائداً مباشراً على الشعب والوطن.

 

انتهاكات مستمرة وتجاهل الحقوق

كما أن الأزمة الأخلاقية تتراكم عندما يتم إبعاد الكفاءات التي تمتلك الخبرة، كجيهان زكي، وتعيين أشخاص غير مؤهلين في مناصب حساسة، بهدف حفظ مكاسب شخصية، أو تقوية النفوذ السياسي، على حساب الحفاظ على المسافة المهنيّة والنزاهة.

يضاف إلى ذلك، أن تصاعد انتهاكات التعدي على حرم الأهرامات والآثار من خلال إنشاء الممشى والمؤسسات السياحية في مناطق محظورة، يُعد تجاوزاً صارخًا لحقوق الأجداد، وتحطيماً للقيم الحضارية والتاريخية.

 

الخلاصة أن ما قدمه نظام السيسي للمتحف المصري الكبير يبدو كصفقة فاسدة، اختلط فيها القرار السياسي بالدسائس الشخصية، وأُهمل فيها الإنفاق على الصيانة والسلامة والشفافية، في إطار محاولة استغلال المشروع السيادي لصالح تمكين نفوذ السلطة أولاً وأخيرًا، على حساب الثروة التراثية الوطنية، التي تمثل مُخزون هويّتنا الأصيلة.

إذا كانت هذه هي "النهضة"، فهي حتماً نهضة الفساد، والمحسوبية، وتدمير القيم الثقافية، التي لا يمكن أن تبني دولة قوية أو حضارة عريقة على أسس الرشوة والفساد والتسييس غير المسؤول.