في تطور خطير يهدد الأمن الغذائي المصري، أعلن مسؤولون في اتحاد منتجي الدواجن أن نحو 60% من مفارخ الدواجن في مصر توقفت عن العمل خلال الأسابيع الماضية، نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج والأعلاف والطاقة، وغياب أي دعم حقيقي من الحكومة.
هذه النسبة الصادمة تكشف انهيار مشروع “الاكتفاء الذاتي من الدواجن” الذي أطلقه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي ضمن ما سُمِّي بالمشروعات القومية للأمن الغذائي، والذي كان يُفترض أن يحوّل مصر إلى دولة مكتفية بل ومصدِّرة للثروة الداجنة.
لكن الواقع، كما يراه أصحاب المزارع والعاملون في القطاع، مختلف تمامًا: مشروع بلا رؤية، وقرارات مرتجلة، ووعود حكومية لم تتحقق.
كارثة إنتاجية في صمت
بحسب بيانات الشعبة العامة للدواجن، فإن إغلاق هذا العدد الضخم من المفارخ يعني انخفاضًا هائلًا في إنتاج الكتاكيت، ما سيؤدي إلى نقص معروض الدواجن الحيّة والمجمدة خلال الأسابيع القادمة، وارتفاعًا متوقعًا جديدًا في الأسعار، التي تجاوزت بالفعل قدرة المواطن العادي.
أصحاب المفارخ يؤكدون أن السبب الرئيسي في الانهيار هو ارتفاع أسعار الأعلاف المستوردة بعد تحرير سعر الصرف وفرض قيود على الاستيراد، فضلًا عن الزيادة المتكررة في أسعار الوقود والكهرباء، وغياب الرقابة على سلاسل التوريد.
ويقول أحد أصحاب المفارخ في الشرقية: "السلطة تتحدث عن الاكتفاء الذاتي، لكن الواقع أننا لا نجد علفًا أو ذرة أو فول صويا بسعر معقول. المصانع الكبيرة تحتكر السوق، والمربي الصغير يخرج من اللعبة كل يوم."
مشروع قومي على الورق فقط
عندما أعلن السيسي قبل عامين عن مشروع قومي للثروة الداجنة، قُدّم للجمهور باعتباره خطوة استراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي، ووعدت الحكومة بتوفير الدعم والتمويل وتسهيل الاستيراد وتخصيص الأراضي في الصحراء لمزارع جديدة.
لكن بعد مرور الوقت، لم يرَ العاملون في القطاع شيئًا من تلك الوعود سوى زيادات متتالية في أسعار الطاقة والضرائب ورسوم التراخيص.
النتيجة:
- انسحاب مئات المستثمرين الصغار من السوق.
- توقف عشرات المصانع الصغيرة لإنتاج الأعلاف.
- تراجع إنتاج البيض والدواجن بنسبة تتجاوز 35%.
- قفزات جديدة في الأسعار، جعلت الدجاج سلعة "ترفًا" على موائد كثير من الأسر المصرية.
ويقول خبراء إن ما حدث هو فشل إداري هيكلي: "المشكلة ليست في الفلاح أو المنتج، بل في غياب الرؤية الحكومية. يتم إطلاق مشروعات دون دراسة جدوى حقيقية، فقط من أجل الصورة الإعلامية، بينما السوق ينهار من الداخل."
فوضى القرارات.. واحتكار السوق
أحد أكثر مظاهر الفشل وضوحًا هو احتكار عدد محدود من الشركات الكبرى لسوق الأعلاف والكتاكيت، في ظل غياب دور فعّال من وزارة الزراعة أو جهاز حماية المنافسة.
بينما ترفع الدولة شعار "تشجيع الإنتاج المحلي"، تترك صغار المربين فريسة لتقلبات الدولار والمضاربة في السوق السوداء.
المفارخ الصغيرة التي كانت تشغّل آلاف العمال في الريف المصري، أغلقت أبوابها اليوم، لتُضاف إلى قائمة القطاعات الإنتاجية التي تدهورت تحت حكم السيسي، مثل صناعة الألبان والأسمدة والصيد.
أمن غذائي في خطر
خبراء الزراعة يحذرون من أن استمرار هذا التدهور سيؤدي إلى نقص حاد في المعروض من البروتين الحيواني، ما سيرفع الأسعار بشكل غير مسبوق.
ويقول أحد الباحثين الزراعيين: "ما يحدث في قطاع الدواجن ليس مجرد أزمة عابرة، بل انهيار ممنهج لقطاع كان يوفر ملايين فرص العمل ويؤمّن الغذاء لملايين الأسر."
ويوضح أن الدولة أهملت دعم الإنتاج المحلي لصالح التوسع في المشروعات العملاقة ذات الطابع الدعائي، مثل المدن الجديدة والعاصمة الإدارية، بينما تُترك القطاعات الأساسية للمجهول.
من المشروعات القومية إلى المشكلات القومية
المفارخ التي أغلقت أبوابها ليست سوى أحدث ضحايا فشل منظومة المشروعات القومية، التي تُطلق دون تخطيط أو استدامة.
فمشروع الدواجن، الذي رُوّج له إعلاميًا بوصفه "نقلة نوعية"، تحول إلى نموذج للفشل الإداري والاقتصادي، تمامًا مثل مشروع المليون ونصف فدان، ومزارع الأسماك، ومجمعات الإنتاج الحيواني التي لم تحقق العائد الموعود.
من المسؤول؟
في النهاية، يدفع المواطن الثمن — من جيبه وغذائه وصحته — بينما تواصل الحكومة سياسة الإنكار والتصريحات المكررة عن الإنجازات.
فشل مشروع الدواجن لا يعبّر فقط عن أزمة قطاع، بل عن نهج إدارة كامل لا يعرف سوى الإعلان والافتتاح دون إدارة أو تخطيط.
وإذا كانت "مفارخ الدواجن" قد توقفت عن العمل، فإن ما هو أخطر هو أن مفارخ القرار الاقتصادي في الدولة نفسها أصبحت عاجزة عن إنتاج أي حلول حقيقية.

