واصلت أسعار مواد البناء في مصر ارتفاعها اليوم الإثنين، لتضيف عبئًا جديدًا على قطاع العقارات وعلى المواطن العادي الذي يحلم ببناء منزل أو شقة صغيرة. فبينما تتصاعد أسعار الحديد بشكل حاد، تكتفي الحكومة بالمراقبة دون أي تدخل فعّال يحدّ من موجات الارتفاع أو يفسّر أسبابها. هذه الزيادات اليومية في سوق البناء باتت تعكس خللًا هيكليًا في إدارة الأسواق، وتكشف عن غياب سياسات ضبط فعّالة في واحدة من أكثر الصناعات تأثيرًا في الاقتصاد المصري.

 

الحديد يتصدر المشهد: زيادات حادة في يوم واحد

 

بحسب البيانات الرسمية، ارتفع متوسط سعر الحديد الاستثماري اليوم إلى نحو 37,916 جنيهًا للطن، بزيادة يومية تجاوزت 2,100 جنيه، وهي قفزة كبيرة لا يمكن تبريرها فقط بعوامل السوق. كما ارتفع السعر الأسبوعي بنحو 725 جنيهًا، في حين ظل منخفضًا قليلًا مقارنة بالعام الماضي بفارق 2,059 جنيهًا، ما يعني أن الأسعار تسير في منحنى صعودي جديد بعد فترة قصيرة من الاستقرار.

 

اللافت هو الفارق الكبير بين الأسعار؛ إذ يتراوح سعر الطن بين 33 ألفًا و49 ألف جنيه، وهو تباين غير مبرر في سوق يفترض أن تكون خاضعة لرقابة حكومية صارمة. هذا التفاوت يكشف ضعف الرقابة واحتكار عدد محدود من المصانع والموردين للسوق، حيث يفرض كل منهم تسعيرته الخاصة دون التزام بأي معايير موحدة أو شفافية في الإعلان.

 

حديد عز نموذجًا: الكبار يتحكمون… والحكومة صامتة

 

فيما يخص حديد عز، وهو المؤشر الرئيسي لسوق الحديد في مصر، ارتفع متوسط السعر إلى 39,950 جنيهًا للطن، بزيادة يومية 1,238 جنيهًا، وارتفاع أسبوعي 643 جنيهًا.

 

ورغم أن السعر تراجع قليلًا مقارنة بالعام الماضي، فإن هذه التحركات السريعة صعودًا تُظهر أن السوق تعمل في إطار شبه احتكاري، حيث تتحكم الشركات الكبرى في الأسعار دون أي تدخل من وزارة التجارة أو جهاز حماية المنافسة.


النتيجة أن أسعار الحديد باتت تقفز بعشرات الجنيهات يوميًا، في حين لا تعلن الحكومة عن أي آلية لتحديد هامش الربح أو لمراجعة تسعيرة المصانع. كما تغيب تمامًا الإجراءات الرقابية التي يمكنها ضبط أسعار مدخلات الإنتاج، خاصة أن جزءًا كبيرًا من المواد الخام يُستورد بالدولار، ما يجعل الأسعار رهينة تقلبات سعر الصرف والقرارات المالية غير المستقرة.

 

الأسمنت والطوب: استقرار نسبي يخفي أزمة أعمق

 

في المقابل، بدا سعر الأسمنت الرمادي أكثر استقرارًا، إذ بلغ متوسط الطن 3,941 جنيهًا، بزيادة طفيفة عن أمس قدرها 9 جنيهات فقط. لكن المقارنة السنوية تكشف ارتفاعًا بنحو 1,078 جنيهًا، أي زيادة بنسبة تقارب 37% خلال عام واحد — وهو معدل لا يمكن تجاهله في سوق يعتمد عليه ملايين المصريين في البناء الذاتي والمشروعات الصغيرة.

 

أما أسعار الطوب فقد بدت مستقرة نسبيًا لكنها ما زالت مرتفعة قياسًا بمستويات الدخل، حيث وصل سعر ألف طوبة من الطوب الأسمنتي المفرغ إلى 13,340 جنيهًا، في حين بلغ الطوب الوردي 4,960 جنيهًا، والطوب الأحمر بمقاساته المختلفة تراوح بين 1,445 و2,360 جنيهًا.

 

هذه الأرقام، رغم استقرارها النسبي، تعني عمليًا أن تكلفة بناء منزل شعبي ارتفعت بأكثر من 50% خلال عامين فقط، وهو ما حوّل حلم البناء إلى كابوس لأصحاب الدخول المحدودة.

 

غياب الرؤية الحكومية: أزمة هيكلية في ضبط السوق

 

تُظهر هذه التقارير أن الحكومة المصرية تتعامل مع أسعار مواد البناء كأنها شأن ثانوي، رغم أن القطاع يوفّر ملايين فرص العمل ويمثل ركيزة رئيسية في الناتج المحلي.

 

غياب الشفافية في تسعير الحديد، وعدم إعلان سياسة واضحة لمخزون المواد الخام، وترك السوق لتجار الجملة والمضاربين، كل ذلك يعمّق من أزمات التضخم ويدفع بأسعار العقارات إلى مستويات غير مسبوقة.

 

اللافت أن الدولة تواصل إطلاق مشروعات إسكان جديدة وتعلن عن “استراتيجيات التنمية العمرانية”، لكنها لا تتخذ أي خطوات عملية لضبط مدخلات البناء. كيف يمكن أن تنجح مشروعات الإسكان القومي أو “حياة كريمة” في ظل ارتفاع أسعار الحديد والأسمنت بهذا الشكل المتسارع؟

 

السوق رهينة الدولار… والحكومة بلا أدوات

 

جزء كبير من أزمة الأسعار يرتبط بتذبذب سعر الدولار وغياب آليات تحوط فعّالة من جانب الحكومة.

 

فكلما ارتفع سعر الدولار في السوق الموازية، يقفز الحديد والأسمنت مباشرة، بينما يظل خطاب الحكومة مكررًا: “الأسعار مستقرة نسبيًا”.

 

لكن الأرقام تكشف العكس — إذ لم يعد المواطن ولا المقاول الصغير قادرًا على التخطيط لأي مشروع بناء في ظل تقلب الأسعار اليومية.

 

كما أن قرارات البنك المركزي المتعلقة بفتح الاعتمادات أو فرض قيود على الاستيراد فاقمت الأزمة بدل أن تعالجها، لأن المصانع أصبحت تعتمد على موردين محدودين يتحكمون في السوق بلا منافسة حقيقية.

 

سوق بلا رقابة… وتنمية بلا عدالة

 

ما يحدث اليوم في سوق مواد البناء ليس مجرد ارتفاع دوري في الأسعار، بل هو مؤشر على فشل حكومي مزمن في إدارة السوق وضبط سلوك الشركات الكبرى.

 

فالحكومة التي ترفع شعار “التحكم في التضخم” تتجاهل أحد أكبر مصادره — قطاع مواد البناء — تاركة المواطنين في مواجهة مفتوحة مع الاحتكار والجشع وغياب المساءلة.


وبينما ترتفع الأسعار يومًا بعد يوم، يظل المواطن البسيط عاجزًا عن شراء الطوب أو الحديد لبناء غرفة إضافية في بيته، في حين يعلن المسؤولون عن مشروعات “مليونية” لا يملك الناس ثمن متر واحد فيها.


إن استمرار هذا الوضع دون إصلاح حقيقي يهدد ليس فقط قطاع البناء، بل الثقة الكاملة في قدرة الحكومة على حماية السوق من فوضى الأسعار.