خلال انعقاد قمة شرم الشيخ الإثنين الماضي، بحضور العديد من قادة دول العالم، لتوقيع على وثيقة وقف إطلاق النار بين "حماس" والكيان الصهيوني، وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى جانب قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، مشيدًا بانخفاض معدلات الجريمة في البلاد.

 

وقال ترامب: "لقد قاموا (المصريين) بعمل رائع.. لديهم نسبة جريمة منخفضة جدًا، كما تعلمون، لأنهم لا يتعاملون مع الأمور باستهتار كما نفعل نحن في الولايات المتحدة".

 

وفي طريق عودته إلى واشنطن، جدد ترامب إشادته بالوضع الأمني في مصر مقارنة ببعض الولايات الأمريكية، قائلاً إنهم "أقوياء جدًا، ليس لديهم جرائم عنيفة مثلنا"، مضيفًا: "أريد أن يكون حكام الولايات في أمريكا مثل حكام مصر بل وأقوى للحد من جرائم العنف (...) يمكنك في الواقع أن تمشي في الحدائق بمصر دون أن تُسرق أو تُضرب على رأسك بمضرب بيسبول".

 

وأوضح أنه "كان هناك 4 آلاف حادث إطلاق نار في شيكاغو، وجرائم قتل على مدى فترة زمنية قصيرة نسبيًا، أي، في غضون عام ونصف تقريبا".

 

وتداول الإعلام الموالي للانقلاب تصريحات ترامب على نطاق واسع، واعتبر مصطفى مدبولي، رئيس حكومة الانقلاب، أن إشادة ترامب تمثل شهادة عالمية على حالة الأمن والاستقرار التي تنعم بها البلاد، وتُعد فرصة ذهبية لدعم الترويج السياحي لمصر عالميًا.

 

ووفق بيانات منصة "ماكرو ترندز" البحثية الأمريكية، شهدت مصر انخفاضًا واضحًا في معدل جرائم القتل بين الأعوام 2015 و2017، حيث وصل المعدل إلى 1.34 لكل مائة ألف نسمة في 2017، بانخفاض نحو 13 بالمائة عن 2016، حيث بلغ معدل الجريمة في ذلك العام نحو 1.54، لكل مائة ألف نسمة، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 12.31 بالمائة عن عام 2015، الذي سجل نحو 1.75 لكل مائة ألف نسمة، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 42.09 بالمائة عن عام 2014.

 

رسالة إلى الحلفاء الأوروبيين

 

غير أن تقريرًا لمنصة (euobserver.com) المختصة في تغطية أخبار الاتحاد الأوروبي، قال إن تعليق ترامب حول الأمن في مصر لم يكن مجرد إطراء دبلوماسي، بل كان تأييدًا لنموذج مصر في "الاستقرار من خلال السيطرة"، فيما اعتبرها رسالة موجهة بشكل مباشر إلى حلفائها الغربيين.

 

وأضاف، أنه بالنسبة لأوروبا، التي يعتمد قادتها على القاهرة في إدارة الهجرة ومكافحة الإرهاب، فإن هذه الرواية تحمل ثقلاً، مشيرًا إلى أن صورة "الأمان" التي باعها ترامب على ذلك المسرح لم تكن مبنية على السلام، بل على الخوف.

 

حقيقة أشدّ قسوةً

 

وفيما رأى أن أن تصريح ترامب يرسم صورةً للنظام الهادئ، قال التقرير إن البيانات تكشف عن حقيقةٍ أشدّ قسوةً. ففي عام 2020 وحده، سجّل مرصد العنف القائم على النوع الاجتماعي في مصر 415 جريمة عنف ضد النساء والفتيات - بما في ذلك جرائم قتل واغتصاب وضرب وابتزاز إلكتروني - مع تضاعف الحالات تقريبًا في النصف الثاني من العام (299 حالة مقابل 116 حالة ) في ظلّ إجراءات الإغلاق بسبب جائحة كورونا.

 

ورصد ارتفاع معدلات التحرش في مصر، حيث لا يزال "الوباء" مستمرًا، فقد أبلغت 63 بالمائة من النساء عن تعرضهن للتحرش الجنسي في الأماكن العامة، وارتفع المعدل في الفئة العمرية من 18 إلى 29 عامًا إلى 90 بالمائة.

 

وأظهرت دراسة أجرتها الأمم المتحدة عن المرأة أن 99.3 بالمائة من النساء المصريات تعرضن لشكل من أشكال التحرش، وأن 91 بالمائة منهن قلن إنهن لا يشعرن بالأمان في الأماكن العامة .

 

جرائم مسكوت عنها

 

وبعيدًا عن العنف القائم على النوع الاجتماعي، فإن مصر - وبحسب ما يذكر التقرير- تعاني من الإتجار بالبشر، والعمل القسري، والفساد المستشري، وكلها تعمل في شبكات غامضة بعيدًا عن التدقيق الرسمي.

 

ولكن الجرائم الأكثر خطورة هي تلك التي ترتكبها الدولة نفسها. فيما تستمر جماعات حقوق الإنسان في توثيق الاعتقالات التعسفية، والاختفاء القسري، والتعذيب، والمحاكمات الصورية ، والتي يتم تبريرها جميعها بموجب قوانين مكافحة الإرهاب الواسعة النطاق.

 

ويُسجن الصحفيون والمحامون والناشطون السلميون بتهمة "نشر أخبار كاذبة" أو "تقويض الأمن القومي". وقد أبلغت لاجئات عن تعرضهن للاغتصاب والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز دون تحقيق جاد.

 

وعلى هذا، رأى التقرير أن رواية ترامب عن "عدم وجود جريمة" لا تكشف عن الاستقرار، بل تخفي العنف المنهجي.

 

وقال إن ما يسميه ترامب "قوة" هو، بالنسبة لكثير من المصريين، صمتٌ مُطبق. ففي بلدٍ تضعف فيه الرقابة وتتمركز فيه السلطة، غالبًا ما تعني "القوة" الهيمنة، لا الانضباط.

 

الرقابة على الإعلام

 

وأشار التقرير إلى فرض الرقابة على وسائل الإعلام المستقلة أو حجبها، بيتما تُجبر المنظمات غير الحكومية على التسجيل بموجب قوانين مقيدة أو يتم إغلاقها، واختفى الخط الفاصل بين الأمن القومي والتعبير الشخصي.

 

بالنسبة للمواطنين العاديين، تعتمد السلامة على الرقابة الذاتية: ضحايا العنف المنزلي، أو وحشية الشرطة، أو الاضطهاد السياسي يظلون صامتين - ليس لأن العدالة تتحقق، ولكن لأن الشكوى في حد ذاتها خطيرة، كما يقول التقرير.

 

وفي ظل هذا، يُجرَّم النقد، إذ قد تؤدي التغريدات أو التقارير أو حتى المحادثات الخاصة إلى الاعتقال بموجب قوانين مكافحة الإرهاب أو الجرائم الإلكترونية. في الوقت الذي يشكك فيه التقرير في نزاهة القضاء، قائلاً إن المحاكم تخدم السلطة التنفيذية، لا المواطن. ويُستبدل الاحتجاز الاحتياطي للمحاكمة لفترات طويلة - والذي يتجاوز أحيانًا خمس سنوات - بالإجراءات القانونية الواجبة.

 

وعلق التقرير: "هذه ليست "قوة" جمهورية منظمة؛ بل هي قوة دولة أمنية. إن غياب الجريمة الظاهرة يُصبح الدليل الأبرز على نجاح النظام. لكنه صمتٌ مُصطنعٌ بدافع الخوف. والنتيجة هي ما يطلق عليه المصريون بفظاظة "سلام المقابر".

 

كل إحصائية تخفي قصةً تُفضّل الدولة عدم سردها. تُظهر بيانات الطب الشرعي أن معظم ضحايا جرائم القتل من الإناث يُقتلن على يد شركائهن المقربين أو أقاربهن، وغالبًا ما يكون ذلك بعد خلافات عائلية، بحسب التقرير.

 

كما رصد الاعتداءات الجنسية في المناسبات العامة التي تركت ندوبًا على الضمير الوطني، لافتًا إلى أنه خلال تنصيب السيسي في عام 2014، تم تجريد طالبة شابة من ملابسها وتعرضت للاعتداء في ميدان التحرير - وهو المشهد الذي كشف لفترة وجيزة عن واجهة الأمان قبل أن يتم دفنه تحت الخطاب الوطني.

 

ووصف التحرش بأنه "أمر يومي، وليس استثنائيًا"، إذ "تتعرض النساء أثناء تنقلهن إلى العمل، أو ركوب المترو، أو التسوق في الأسواق للتحرش والاعتداء اللفظي دون عقاب".

 

وقال التقرير إنه "بالنسبة للنساء اللاجئات من السودان أو إريتريا، يتضاعف التهديد: فبدون الحماية القانونية، يتحملن الاستغلال والاعتداء دون وجود نظام فعال لإنصافهن".

 

في المنازل والشوارع والسجون، يتكرر النمط نفسه: يزدهر العنف حيث تغيب المساءلة. ويعتمد ما يُسمى باستقرار مصر تحديدًا على ضمان بقاء المعاناة خفية.

 

تمويل القمع

 

وحظيت تعليقات ترامب في شرم الشيخ بإشادة البعض، ولكنها تستحق التدقيق من جانب أوروبا، كما يدعو التقرير.

 

وافق الاتحاد الأوروبي مؤخرًا على حزمة مساعدات بقيمة 7.4 مليار يورو للقاهرة، رُكّز معظمها على "الاستقرار" و"ضبط الهجرة". لكن التقرير يقول: إذا كان الاستقرار يعني إسكات المعارضة، فإن أوروبا تُخاطر بتمويل القمع بينما تُهنئ نفسها على السلام.

 

واوضح أن "السلام الحقيقي يتطلب المساءلة. ينبغي للحكومات الأوروبية المنخرطة في الشأن المصري أن تُصرّ على مراقبة مستقلة للاعتقالات والاختفاءات، وتحقيقات شفافة في العنف القائم على النوع الاجتماعي، وإتاحة مساحة للمجتمع المدني وحرية الإعلام، لأن الاستقرار بدون عدالة هو استقرار هش – والنظام الذي يتم الحفاظ عليه من خلال الخوف ليس نظاماً على الإطلاق".

 

ويخلص التقرير إلى أنه "لا ينبغي للدولة المحترمة أن تخشى التفتيش، ولا ينبغي لمواطنيها أن يخشوا الكلام. وإذا بدت مصر هادئة من بعيد، فذلك لأن شعبها تعلم أن الصمت هو الأسلم".

 

إذا استطاعت الأرقام أن تتحدث ــ ورغم أن الإبلاغ الدقيق يظل مستحيلا تقريبا في ظل المناخ الاستبدادي الخانق في مصر ــ فإنها ستكشف عن ارتفاع في معدلات الجريمة من كل أنواعها: العنف القائم على النوع الاجتماعي، والقتل، والسرقة، وشبكات الاتجار بالبشر، والجرائم التي ترتكبها الدولة مثل الاعتقالات السياسية، والتعذيب، والاختفاء القسري، والمحاكمات غير العادلة، بحسب ما يرصد التقرير.

 

وفيما يستهجن التقرير غياب حرية الصحافة واستحالة التعبير، فإنه يتساءل: سيد ترامب، أي "جريمة" كنتَ تقصد تحديدًا؟ وماذا قصدتَ بـ "نظام قوي"؟، هل تقصد نظامًا قويًا إلى درجة أن الناس يخشون التحدث - لدرجة أن الحقيقة نفسها أصبحت فعلًا يعاقب عليه القانون، ويكلف سنوات خلف القضبان لأولئك الذين يجرؤون على كتابتها، كما حدث لمؤلف هذا المقال من قبل؟".

 

https://euobserver.com/eu-and-the-world/ar953fd940