في تصرف يكشف عن انهيار غير مسبوق في الانضباط المهني وتدهور حاد في لغة الخطاب الرسمي، ردّت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، كارولين ليفيت، على سؤال حول الجهة التي اختارت بودابست لعقد القمة المرتقبة بين الرئيس دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بإجابة صادمة ومبتذلة: "أمك".

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قام مدير الاتصالات بالبيت الأبيض، ستيفن تشيونغ، بترديد نفس الرد، مؤكداً أن هذا السلوك لم يكن زلة لسان، بل نهجاً متعمداً.

أثارت الحادثة، التي وقعت خلال تواصل مع صحفي من "هافبوست"، عاصفة من الانتقادات، ليس فقط بسبب الإهانة الصريحة، بل لأنها تمثل تجسيداً لغطرسة مؤسسية وأزمة أخلاقية عميقة تضرب إدارة ترامب.

فبدلاً من تقديم إجابة دبلوماسية أو حتى سياسية، اختار أعلى مسؤولين إعلاميين في البيت الأبيض أسلوب التجريح الشخصي، في محاولة صريحة لتقويض شرعية الصحفي والسؤال معاً.

وعندما تمت متابعة الأمر مع ليفيت بسؤالها إن كانت تجد ردها مضحكاً، صعدت من هجومها قائلة: "أجد من المضحك أنك تعتبر نفسك صحفياً أصلاً. أنت مجرد ناشط يساري متطرف لا يأخذك أحد على محمل الجد".

ولم يظهر البيت الأبيض أي ندم، فعندما طلبت صحيفة "الإندبندنت" تعليقاً على مدى ملاءمة الرد، أجاب المتحدث تايلور روجرز بأن الرد كان "أكثر من مناسب"، واصفاً الصحفي بأنه "ناشط ديمقراطي" وليس مراسلاً حقيقياً.
 

تحليل الخبراء: أبعاد سياسية وراء الغطرسة

تجاوزت ردود الفعل حالة الصدمة من الرد المسيء إلى تحليل الأبعاد السياسية والاستراتيجية الكامنة وراء اختيار بودابست، والتي حاول البيت الأبيض التهرب من مناقشتها.

جيم تاونسند (Jim Townsend)، الزميل البارز في مركز الأمن الأمريكي الجديد (CNAS) والخبير المخضرم في شؤون البنتاغون والناتو، أشار إلى أن دوافع ترامب قد تكون شخصية أكثر منها استراتيجية.

وقال لـ "هافبوست": "ترامب معجب بأوربان (رئيس وزراء المجر) وربما يعتقد أنه يقدم له خدمة. كما أن بوتين صديق لأوربان".

وأضاف تاونسند أن معظم دول العالم لن تعتبر بودابست "أرضاً محايدة" لمثل هذا الاجتماع الحساس، لكن "ترامب وبوتين يفعلان ذلك".

يان تيكاو (Jan Techau)، مدير أوروبا في مجموعة أوراسيا (Eurasia Group)، قدم تحليلاً أكثر تعقيداً، معتبراً أن اختيار بودابست يخدم أغراضاً متعددة لترامب.

فهو يتيح له "إظهار استعداده للتوسط في السلام، ودعم حليفه فيكتور أوربان، وتحدي الأوروبيين في منطقتهم".

وأوضح تيكاو أن هذه الخطوة تسمح لترامب بلعب دور مزدوج، حيث يصور نفسه كوسيط سلام وفي نفس الوقت يظهر ازدراءه للمحكمة الجنائية الدولية التي تلاحق بوتين.
 

تآكل صورة الدولة العظمى

يرى محللو الاتصال السياسي أن هذا الأداء الهزيل ليس مجرد حادثة معزولة، بل هو جزء من استراتيجية ممنهجة تتبعها إدارة ترامب لتقويض مصداقية الصحافة وتفريغ الحوار السياسي من مضمونه الجاد.
إنها "تكتيكات تدميرية" تهدف إلى إرهاق وسائل الإعلام وإحباط الصحفيين الجادين، مما يترك الساحة مفتوحة لرواية رسمية أحادية لا تخضع للمساءلة.

هذا السلوك يخصم بشكل مباشر من صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى ورائدة تاريخياً في علوم الاتصال السياسي.
فالمتحدث الرسمي لا يعبر عن مزاجه الشخصي، بل عن مقام الدولة.

في النهاية، لم تكن إجابة "أمك" مجرد رد فظ، بل كانت نافذة كشفت عن أزمة أعمق في إدارة تعتقد أن مهاجمة الصحافة أكثر أهمية من الإجابة على أسئلتها، وهو نهج يهدد بتقويض أسس الديمقراطية ومكانة أمريكا على الساحة العالمية.