في مشهد بات متكرراً حدّ الاعتياد، أقدمت الحكومة المصرية في 17 أكتوبر 2025 على رفع أسعار البنزين والسولار والغاز المنزلي، لتفتح بذلك باباً جديداً من المعاناة اليومية للمواطنين الذين لم يكدوا يلتقطون أنفاسهم من موجات الغلاء السابقة.
القرار الذي وصفته الحكومة بأنه "ضرورة اقتصادية" جاء كصفعة جديدة للفقراء ومتوسطي الدخل، ممن باتوا يدفعون ثمن فشل السياسات الاقتصادية دون أن يجنوا من وعود الإصلاح سوى مزيد من الأعباء.

الزيادات الأخيرة شملت رفع سعر بنزين 95 من 19 إلى 21 جنيهاً، وبنزين 92 من 17.25 إلى 19.25 جنيهاً، والسولار من 15.5 إلى 17.5 جنيهاً، وغاز السيارات من 7 إلى 10 جنيهات للمتر المكعب، فيما ارتفع سعر أسطوانة البوتاجاز إلى 225 جنيهاً.
وبرغم إعلان الحكومة تثبيت الأسعار حتى أكتوبر 2026، فإن الزيادة الحالية كانت كفيلة بإشعال كل تفاصيل الحياة اليومية في مصر.
 

النقل والمواصلات... الغلاء يبدأ من الشارع
الانعكاس الفوري للقرار ظهر في شوارع المدن، حيث ارتفعت أجرة المواصلات العامة والخاصة بنسب تتراوح بين 15 و25%.
سائقي الميكروباصات والنقل الداخلي سارعوا إلى رفع التسعيرة بحجة ارتفاع تكلفة السولار، في غياب أي رقابة فعلية من الجهات التنفيذية.

هذا الارتفاع أصاب شريحة واسعة من العاملين والطلبة والموظفين الذين يعتمدون على المواصلات يومياً، فتكاليف التنقل أصبحت تلتهم جزءاً كبيراً من الدخل الشهري، ما أجبر بعض الأسر على تقليل التحرك أو الاعتماد على وسائل أرخص، حتى لو كانت أقل أماناً أو راحة.
 

أسعار الغذاء... موجة تضخم جديدة
لم يتأخر أثر ارتفاع الوقود في الظهور داخل الأسواق. فالسلع الغذائية، خاصة الخضروات واللحوم والدواجن، شهدت قفزات جديدة بسبب زيادة تكلفة النقل والتبريد والتوزيع.
فالشاحنات التي تنقل البضائع من المحافظات إلى المدن تعتمد على السولار، ومع ارتفاع أسعاره ارتفعت كلفة الشحن، لينعكس ذلك مباشرة على المستهلك النهائي.

تجار التجزئة برروا الزيادات بأنها "خارج إرادتهم"، فيما لم تتدخل الحكومة سوى ببيانات شكلية عن "تشديد الرقابة"، دون أي أثر حقيقي على أرض الواقع.
 

فاتورة الخدمات... المواطن يدفع أكثر مقابل جودة أقل
لم يقتصر التأثير على الأسعار المباشرة، بل امتد إلى كل الخدمات الأساسية. شركات النقل والتوصيل رفعت أسعارها، والمصانع أعلنت نيتها زيادة أسعار منتجاتها لتغطية فارق الوقود والطاقة.
حتى خدمات الغاز المنزلي شهدت زيادات متتالية جعلت الأسر الفقيرة بين خيارين أحلاهما مر: إما تقليص استهلاكها الضروري أو اللجوء إلى وسائل بديلة مكلفة وغير آمنة.

ومع ارتفاع فواتير الكهرباء والمياه والغاز في وقت متزامن، أصبح المواطن محاصراً من كل اتجاه، يدفع أكثر مقابل خدمات تتراجع جودتها يوماً بعد يوم.
 

الدخول تتآكل... والطبقة المتوسطة تختفي
الزيادة الأخيرة جاءت لتعمّق الفجوة بين الأجور والأسعار. فمعظم العاملين في القطاعين العام والخاص لم يشهدوا أي زيادة حقيقية في الرواتب منذ أكثر من عام، بينما تتضاعف تكاليف المعيشة شهراً بعد آخر.
الأسرة المصرية باتت اليوم تعيد حساباتها في كل صغيرة وكبيرة: من طعامها ولبسها إلى وسيلة نقلها ومدارس أبنائها.

الطبقة المتوسطة، التي كانت يوماً عماد الاستقرار الاجتماعي، أصبحت مهددة بالزوال، بعدما باتت عاجزة عن تلبية احتياجاتها الأساسية.
أما الفقراء، فحالهم تجاوز حدود الاحتمال، إذ لم يعد الدعم المعلن ولا البرامج الاجتماعية قادرة على ملاحقة الزيادات المتلاحقة في الأسعار.
 

فشل إدارة... وغياب العدالة الاجتماعية
رغم تبريرات الحكومة بأن القرار ضروري لتقليص العجز في الموازنة ومواكبة التغيرات العالمية، إلا أن غياب سياسات موازية لحماية المواطن جعل الزيادة عبئاً كاملاً على كاهله وحده.
لم تُعلن الحكومة عن حزمة تعويضات حقيقية أو دعم نقدي مباشر، ولم توضح كيف ستمنع انتقال آثار الزيادة إلى باقي القطاعات.

النتيجة أن المواطن المصري وجد نفسه مرة أخرى في مواجهة مفتوحة مع الغلاء، بينما تكتفي الحكومة بإلقاء اللوم على "الأوضاع العالمية" وصندوق النقد الدولي.
 

خلاصة: المواطن يدفع... والحكومة تبرر
تؤكد تجربة رفع أسعار الوقود في أكتوبر 2025 أن الحكومة المصرية فقدت بوصلتها الاجتماعية، إذ باتت ترى في المواطن مجرد رقم في معادلة مالية، لا إنساناً له احتياجات وحقوق.
فالقرارات الاقتصادية التي تُتخذ دون حماية حقيقية للفقراء ليست إصلاحاً، بل إنها وصفة جاهزة لتفجير مزيد من الغضب الشعبي.

وبينما تتحدث الحكومة عن الاستقرار الاقتصادي، يعيش المواطن استقراراً من نوع آخر: استقرار في المعاناة، لا يتغير فيه شيء سوى رقم جديد يُضاف إلى قائمة الأسعار الملتهبة.