في قلب القاهرة، وعلى مرأى من مؤسسات الدولة ووزاراتها، يعيش آلاف المواطنين في حي الزيتون بمنطقة جسر السويس مأساة يومية تُجسّد انهيار منظومة الإدارة المحلية وتكشف عن الوجه الحقيقي لـ"الجمهورية الجديدة". فخلف الشعارات الرسمية عن التطوير والنظافة والرقمنة، ترتفع جبال من القمامة في شارع مطروح بجوار العقار رقم 54، حيث تحوّلت قطعة أرض فضاء منذ عام 2021 إلى مكب ضخم للنفايات ومرتَع للحشرات والفئران والحيوانات الضالة، في مشهد لا يليق بدولة تتحدث عن المدن الذكية والمستقبل الأخضر.
ما يعيشه الأهالي هناك ليس مجرد تلوث بيئي، بل كارثة صحية واجتماعية بكل المقاييس. فمع تراكم النفايات التي لا تُزال لأشهر، أصبحت الروائح الكريهة تخنق الأنفاس، وغزت أسراب الذباب والبعوض والمجاري المائية، فيما تحوّلت الشوارع إلى بيئة مثالية لتفشي الأمراض الصدرية والجلدية. الأطفال وكبار السن تحديدًا يدفعون الثمن من صحتهم يوميًا، بعد أن أصبحت منازلهم سجناً مغلقًا عليهم، لا يستطيعون فتح النوافذ أو الخروج إلى الشارع خوفًا من العدوى.
يقول أحد السكان بمرارة: "لم نعد نعيش حياة آدمية.. القمامة أمام منازلنا منذ أربع سنوات، والحي لا يرى ولا يسمع". شهادات الأهالي تكشف عن واقع أكثر مرارة من المشهد ذاته، فالإهمال لم يقف عند حدود العجز عن حل المشكلة، بل تجاوزه إلى فساد منظم تمارسه الأجهزة المحلية نفسها.
ابتزاز رسمي وفساد علني
بدلًا من أن تكون سيارات الحي أداة لإنقاذ المواطنين من الخطر الصحي، تحوّلت إلى وسيلة ابتزاز وابتزاز مالي. يؤكد السكان أن موظفين من الحي يأتون من حين لآخر، ليس لإزالة القمامة، بل لابتزاز الأهالي وفرض ما يشبه "الإتاوات" تحت مسمى "مصاريف رفع المخلفات"، ثم يغادرون دون أن يحركوا ساكنًا.
تتكرر هذه الوقائع منذ سنوات دون مساءلة، رغم الشكاوى التي وُجّهت إلى رئاسة الحي ومحافظة القاهرة ووزارة البيئة، والتي ذهبت كلها أدراج الرياح. لا رد، لا متابعة، ولا حتى زيارة ميدانية من المسؤولين، وكأن صحة المواطنين ليست سوى بند مهمل في أجندة الدولة.
هذا التواطؤ الصامت لا يمكن تفسيره إلا بأنه نظام فساد مستقرّ داخل المحليات، يبيع صمت المسؤولين مقابل رشاوى، ويترك الأهالي يواجهون مصيرهم وسط القمامة والأوبئة. فالحي، الذي يفترض أنه خط الدفاع الأول عن الصحة العامة، أصبح في نظر سكان جسر السويس شريكًا في الجريمة، يحمي الفوضى بدلًا من محاربتها.
خطاب رسمي مزيّف وواقع مريض
تتزامن مأساة شارع مطروح مع حملة دعائية حكومية لا تتوقف عن التباهي بالمشروعات القومية والمدن الجديدة التي تكلّف المليارات.
لكن المشهد في جسر السويس يفضح التناقض بين الخطاب الرسمي المترف والواقع الشعبي المتهالك.
كيف يمكن لحكومة تتحدث عن التنمية المستدامة أن تعجز عن جمع القمامة من حيّ سكني في العاصمة؟
ما جدوى بناء القصور والعواصم الإدارية إذا كان المواطن في الأحياء القديمة ينام محاصرًا بالقمامة والحشرات؟
إن مأساة جسر السويس ليست استثناءً، بل نموذجًا مكررًا في عشرات المناطق المهمّشة التي لم تصلها يد التنمية ولا حتى أبسط مظاهر الإدارة الرشيدة. فبينما تُنفق الحكومة على مشروعات استعراضية لا تمس حياة الناس، يتآكل الحق في البيئة النظيفة، ويتراجع الإحساس بالأمان الصحي، ويترسّخ انطباع بأن الدولة تشتري الصمت برشاوى وتبيع مواطنيها للأمراض.
أزمة إدارة وليست مشكلة نظافة
القضية في جوهرها ليست أكوام القمامة، بل انهيار منظومة الإدارة المحلية وغياب المحاسبة. فلو كانت هناك رقابة حقيقية من المحافظة ووزارة التنمية المحلية، لما تحولت قطعة أرض إلى مقلب دائم طوال أربع سنوات. ولو كانت وزارة البيئة تقوم بدورها، لما استمر تلوث بهذا الحجم دون تدخل.
إن استمرار هذه الكارثة يعكس فشلًا مؤسسيًا عامًا، حيث تغيب الإرادة السياسية لحل مشكلات الناس اليومية، لصالح خطاب دعائي عن "الإنجازات الكبرى". فما قيمة الطرق والكباري إذا كان المواطن يختنق في بيئته؟ وما معنى التنمية إذا لم تحمِ حياة الإنسان؟
صرخة من قلب العاصمة
قصة شارع مطروح ليست مجرد شكوى من تراكم القمامة، بل صرخة احتجاج ضد نموذج حكم فقد بوصلته. أهالي جسر السويس لا يطلبون رفاهية ولا امتيازات، بل حقهم في بيئة نظيفة وصحة آمنة، وهو حق تكفله القوانين والدستور.
الحكومة مطالَبة اليوم ليس فقط برفع القمامة، بل بمحاسبة كل مسؤول تورط في هذا الفساد، وبإعادة تعريف أولوياتها بعيدًا عن الشعارات. فشرعية أي نظام لا تُبنى على الأبراج اللامعة، بل على قدرته على حماية كرامة الناس وصحتهم.