في مفارقة تكشف عمق الأزمة التي يمر بها الاقتصاد المصري، وبينما يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتجاوز الدين الخارجي لمصر حاجز 202 مليار دولار بحلول عام 2030 ، يواصل الصندوق ذاته لعب دور الدائن الرئيسي، موافقًا على برامج إقراض متتالية كان آخرها توسيع تسهيل ائتماني ليصل إلى 8 مليارات دولار. هذا النهج يثير تساؤلات جدية حول ما إذا كان الصندوق يعمل كشريك إنقاذ أم كأداة لتوريط النظام المصري في حلقة مفرغة من الديون، تضمن تبعيته المالية وتجبره على تنفيذ سياسات تزيد من معاناة المواطنين وتفرط في أصول الدولة.
القروض كأداة لتكريس الأزمة
بدأت أحدث فصول هذه العلاقة في ديسمبر 2022، عندما وافق الصندوق على قرض بقيمة 3 مليارات دولار ضمن "تسهيل الصندوق الممدد" لمدة 46 شهرًا. لم يكن هذا القرض سوى بداية لسلسلة من الإجراءات التي عمقت الأزمة، ففي مارس 2024، ومع تفاقم شح العملة الأجنبية، تم رفع قيمة القرض إلى 8 مليارات دولار. يأتي هذا التدفق المالي المستمر في وقت تشير فيه توقعات الصندوق نفسه إلى قفزة هائلة في الدين الخارجي من حوالي 162.7 مليار دولار في عام 2025 إلى 202 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
هذا التناقض الصارخ بين دور الصندوق كدائن وتوقعاته المتشائمة لمستقبل الدين، يكشف عن آلية عمل خطيرة؛ حيث يقدم الصندوق قروضًا لا تهدف إلى حل المشكلة من جذورها، بل لتوفير سيولة مؤقتة تمكّن حكومة السيسي من سداد أقساط الديون القديمة، مما يضمن استمرار دوران عجلة الاقتراض. وتأتي هذه الأموال مصحوبة بحزمة من الشروط التي تمثل جوهر المشكلة.
وصفة الإصلاح التي تفاقم الداء
يقدم صندوق النقد روشتة إصلاحات ثابتة كشرط أساسي لتقديم قروضه، وهي سياسات أثبتت في الحالة المصرية أنها تزيد من الطين بلة.
تتضمن هذه الحزمة ثلاثة محاور رئيسية تعمل معًا على إحكام قبضة الديون على الاقتصاد:
- التحول الدائم إلى سعر صرف مرن: هذا الشرط، الذي يُصوَّر على أنه علاج لاختلالات السوق، أدى عمليًا إلى تخفيضات عنيفة ومتتالية في قيمة الجنيه المصري. ومع كل تخفيض، ترتفع قيمة خدمة الدين الخارجي بالعملة المحلية، وتتآكل مدخرات المصريين، وتشتعل موجات تضخم قياسية وصلت إلى 38% في سبتمبر 2023.
- تقليص بصمة الدولة وبيع الأصول: تحت شعار "تمكين القطاع الخاص"، يضغط الصندوق بقوة نحو تنفيذ برنامج واسع لبيع الأصول المملوكة للدولة. تشير تقارير الصندوق إلى أن مصر تستهدف جمع 3 مليارات دولار من بيع الأصول في العام المالي 2025-2026 وحده. هذه السياسة لا تمثل فقط تفريطًا في مقدرات استراتيجية للأجيال القادمة، بل هي عملية تسييل للأصول لتوفير عملة صعبة لسداد الديون، مما يحول الدولة من مالك منتج إلى بائع لسداد الفواتير.
- الضبط المالي ورفع الدعم: يطالب الصندوق بإجراءات تقشفية لضمان "تراجع مسار الدين العام"، وهو ما يترجم فعليًا إلى رفع الدعم عن سلع وخدمات أساسية مثل الوقود والكهرباء، مما يزيد من الأعباء المعيشية على الفئات الضعيفة والمتوسطة، التي تعاني أصلاً من وطأة التضخم.
اعتراف بالمخاطر واستمرار في النهج
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن صندوق النقد يدرك تمامًا المخاطر الناجمة عن سياساته. ففي تقاريره، يقر الصندوق بأن الدين العام في مصر "يشكل خطرًا كبيرًا على الاستقرار السيادي". ومع ذلك، فإنه يواصل نفس النهج القائم على التمويل المشروط. حتى تفاؤله بشأن انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030 يبدو في غير محله، حيث يعتمد على توقعات نمو اقتصادي قد لا تتحقق في ظل حالة عدم اليقين العالمي والإقليمي.
في النهاية، يبدو أن العلاقة بين مصر وصندوق النقد قد تحولت إلى شراكة سامة. يقدم الصندوق قروضًا تبقي النظام على قيد الحياة ماليًا على المدى القصير، وفي المقابل، يفرض سياسات تضمن تفاقم الديون على المدى الطويل، وتجبر الحكومة على بيع أصولها والتخلي عن دورها الاجتماعي. إنها دائرة مغلقة تورط النظام في ديون متزايدة، وتجعل الخروج من الأزمة الاقتصادية أمرًا أبعد منالًا من أي وقت مضى.