في مشهد صادم أثار غضبًا واسعًا بين سكان الإسكندرية، أغلق المستشفى الأميري الجامعي أبوابه أمام المرضى، ورفض استقبال حالات طبية طارئة، ما تسبب في حالة فوضى عارمة أمام بواباته، وسط صرخات المواطنين الذين استنجدوا بالشرطة دون أي استجابة تُذكر. الحادثة التي وثقتها عشرات الفيديوهات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي كشفت، مرة أخرى، هشاشة المنظومة الصحية في مصر، وعجز الحكومة عن ضمان أبسط حقوق المواطنين: الحق في العلاج.

 

فوضى أمام المستشفى وصمت رسمي مريب

وفق شهادات موثقة لمواطنين وممرضين، تفاجأ المئات من المرضى وذويهم صباح الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 بإغلاق بوابات المستشفى الأميري — أحد أكبر الصروح الطبية في المدينة — دون إعلان رسمي أو لافتة توضح الأسباب. توقفت سيارات الإسعاف أمام البوابة الرئيسية، في حين انتظر الأهالي بالساعات أملاً في السماح لهم بالدخول، لكن دون جدوى.

تُظهر الفيديوهات المنتشرة على منصات “فيسبوك” و“إكس” حالة من الفوضى واليأس، حيث علت أصوات الاستغاثة، وتوسل المواطنون للطواقم الأمنية أمام المستشفى للسماح بإدخال الحالات الحرجة، بينهم كبار سن ونساء في حالات ولادة وأطفال مصابون. ومع تزايد الاحتجاجات، حاول بعض الأهالي الاتصال بالشرطة، لكن الاستجابة كانت معدومة، بينما اكتفت الأجهزة الأمنية بمراقبة الوضع من بعيد دون تدخل يُذكر.

 

مستشفى الأميري.. من رمز للعلاج المجاني إلى بوابة مغلقة

يُعد المستشفى الأميري الجامعي من أقدم وأكبر المؤسسات الطبية في الإسكندرية، ويمثل الملاذ الوحيد للفقراء الذين لا يملكون ترف العلاج في المستشفيات الخاصة. إغلاقه المفاجئ — حتى لو كان جزئيًا أو مؤقتًا — يمثل ضربة قاسية لمنظومة الصحة العامة التي تعاني أصلًا من التدهور والإهمال المزمن.

مصادر طبية داخل المستشفى أفادت بأن الإغلاق جاء بسبب عجز في الكوادر الطبية و”ظروف تشغيلية” تتعلق بنقص المستلزمات والأدوية، في وقت تتزايد فيه أعداد المرضى بشكل غير مسبوق. وأشارت المصادر إلى أن بعض الأقسام، خصوصًا الطوارئ والعناية المركزة، تعاني من نقص حاد في الأطباء والممرضين، ما جعل الإدارة تتذرع بـ”عدم القدرة على استقبال مزيد من الحالات”.

 

الحكومة تتحدث عن التطوير.. والمواطنون يواجهون الموت أمام الأبواب

تأتي هذه الحادثة لتنسف الخطاب الرسمي المتكرر عن “تطوير القطاع الصحي” و”رفع كفاءة المستشفيات الجامعية”. فبينما تتحدث الحكومة عن “خطط طموحة” لتحديث البنية التحتية للمستشفيات، يعيش المواطن المصري واقعًا مغايرًا تمامًا — واقعًا تُغلق فيه أبواب الطوارئ في وجه المرضى بينما تُفتتح مشروعات تجميل العاصمة بمليارات الجنيهات.

ويرى مراقبون أن أزمة المستشفى الأميري ليست حادثًا معزولًا، بل نتيجة طبيعية لسياسات الإهمال المزمن وتقليص الإنفاق العام على الصحة. فبحسب بيانات البنك الدولي، لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على الصحة في مصر 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أقل من الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية لضمان رعاية صحية أساسية.

 

الشرطة الغائبة.. ووزير الصحة الصامت

الأدهى أن استغاثات الأهالي بالشرطة لم تلقَ أي استجابة، ما أثار تساؤلات حول غياب الدور الأمني في التعامل مع كارثة إنسانية بهذا الحجم. ووسط موجة الغضب الشعبي، لم يصدر عن وزارة الصحة أي بيان توضيحي أو اعتذار رسمي، واكتفت مصادرها بالقول إن “الوضع تحت السيطرة” — عبارة أصبحت مرادفة للتنصل من المسؤولية كلما وقعت مأساة جديدة.

بعض النشطاء طالبوا بفتح تحقيق فوري مع إدارة المستشفى ومسؤولي الصحة في الإسكندرية، متسائلين: كيف تُغلق بوابات مستشفى حكومي في وجه المرضى دون تنسيق أو إعلان، ومن يملك قرار منع إسعاف مصاب أو معالجة طفل يحتضر؟

 

سياسات الإهمال.. ونتائجها القاتلة

هذه الفوضى ليست سوى تجلٍّ آخر للفشل الحكومي في إدارة الخدمات الحيوية. فبينما تنفق الدولة المليارات على مشروعات “العاصمة الإدارية” و”القطارات الفاخرة”، يواجه المواطنون في المحافظات خطر الموت بسبب نقص الأطباء وتعطّل غرف العمليات. ويتساءل مراقبون: كيف تتحدث الحكومة عن “إصلاح اقتصادي” بينما تعجز عن توفير مستشفى يعمل بكامل طاقته في ثاني أكبر مدينة في البلاد؟

ويرى خبراء أن الحادثة تكشف عن أزمة أعمق في أولويات الدولة، حيث يُهمّش الإنفاق على الصحة والتعليم لصالح مشروعات استعراضية لا تمسّ حياة الناس اليومية. هذا النهج، الذي يتبناه النظام الحالي بقيادة السيسي، يجعل من معاناة المصريين اليومية ثمنًا لسياسات اقتصادية فاشلة تُدار بالعلاقات العامة لا بالكفاءة.

 

واخيرا  مشهد يُلخّص انهيار الثقة

إغلاق المستشفى الأميري ليس مجرد حادث طارئ، بل رمز لانهيار الثقة بين المواطن والدولة. فحين يُترك المريض على الرصيف دون علاج، ويغيب الوزير عن المشهد، وتلوذ الحكومة بالصمت، تتحول الصحة من حق إلى ترف، والحياة من أولوية إلى تفصيل ثانوي في مشروع “الإصلاح الشكلي”.

إنها ليست مأساة الإسكندرية وحدها، بل مأساة وطنٍ تُغلق فيه أبواب النجاة أمام الناس بينما تبقى أبواب السلطة مفتوحة فقط أمام التصريحات.