مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية لعام 2025، تتكشف ملامح أزمة سياسية عميقة تهدد ما تبقى من مظاهر التنافس الديمقراطي في مصر. فبدلاً من أن تكون الانتخابات فرصة لتجديد الحياة السياسية، تحولت إلى مرآة تعكس حجم الاحتكار السياسي والهيمنة الإدارية، وسط شكاوى متزايدة من رموز المعارضة من إقصاء متعمد ومنهج لإسكات الأصوات المخالفة.
يأتي في مقدمة المنتقدين القيادي العمالي ووزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة، الذي وصف العراقيل التي تواجه المرشحين المعارضين بأنها "خطة ممنهجة لإقصاء المنافسين"، مشيراً إلى أن حزبه "الكرامة"، المنضوي ضمن "الجبهة الشعبية للعدالة الاجتماعية"، يواجه تعنتاً واسعاً في قبول أوراق مرشحيه، تماماً كما حدث سابقاً مع أنصار المرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي، حين مُنعوا من تحرير التوكيلات وتعرض بعضهم للاعتداء أمام مكاتب الشهر العقاري بحجة "تعطل النظام".
هذه الشكاوى ليست معزولة، بل تأتي في سياق متكرر من التضييق السياسي، يراه مراقبون مؤشراً على أن الدولة لا تزال تتعامل مع الانتخابات باعتبارها "ملفاً أمنياً"، لا عملية سياسية يفترض أن تقوم على المنافسة العادلة. ومع اتساع نطاق هذه الممارسات، تتراجع فرص أي قوى سياسية حقيقية في خوض معركة انتخابية متكافئة.
المال السياسي يبتلع القوائم الحزبية
في قلب هذه الأزمة، تتصدر فضائح المال السياسي المشهد. فقد كشفت مصادر حزبية أن إدراج الأسماء في القوائم الانتخابية – وعلى رأسها "القائمة الوطنية من أجل مصر" المدعومة من أجهزة الدولة – أصبح مرهوناً بما يدفعه المرشح من مبالغ مالية ضخمة، في مشهد يفرغ العمل الحزبي من مضمونه.
الواقعة التي هزّت الرأي العام كانت تلك التي كشفتها القيادية بحزب "حماة الوطن" حنان فايز شرشار، التي صرحت في مقطع مصوّر بأنها طُلب منها دفع 25 مليون جنيه مقابل مقعد في البرلمان، مضيفةً أن السؤال كان صريحاً: "ماذا ستدفعين مقابل الكرسي؟".
هذا الاعتراف الصادم أعاد إلى الواجهة الحديث عن تحوّل الانتخابات إلى مزاد مغلق، تتحدد نتائجه في الغرف المغلقة، بعيداً عن صناديق الاقتراع.
وعقب انتشار الفيديو، اندلعت موجة استقالات واسعة في عدد من المحافظات، حيث أعلن عشرات الأعضاء انسحابهم من الحزب احتجاجاً على ما وصفوه بـ"إهانة الكفاءات وشراء الولاءات". المشهد نفسه تكرر في حزب مستقبل وطن، الحاكم فعلياً، حين تقدّم سبعة من قياداته في أسوان باستقالات جماعية، معلنين خوض الانتخابات كمستقلين بعد تهميشهم داخل الحزب. أما على جبهة المعارضة، فلم تسلم الأحزاب من الانقسامات؛ إذ شهد حزب الدستور خلافات حادة حول تشكيل التحالفات الانتخابية واتهامات لرئيسته جميلة إسماعيل بالانفراد بالقرارات.
استبعاد الحرس القديم... وإعادة رسم الولاءات
الأزمة لم تتوقف عند حدود المعارضة، بل طالت أيضاً أركان النظام نفسه. فقد شهدت القوائم الانتخابية إقصاءً واسعاً للحرس القديم من البرلمان، في خطوة فُسّرت بأنها محاولة لإعادة هندسة الخريطة البرلمانية لصالح وجوه أكثر ولاءً للسلطة التنفيذية.
ومن بين المستبعدين:
- أحمد السجيني رئيس لجنة الإدارة المحلية،
- عبد الهادي القصبي زعيم الأغلبية ورئيس لجنة التضامن،
- علاء عابد رئيس لجنة النقل ونائب رئيس "مستقبل وطن"، الذي غادر البلاد فور استبعاده،
- محمد السلاب رئيس لجنة الصناعة،
- ياسر عمر وكيل لجنة الخطة والموازنة،
- طارق رضوان رئيس لجنة حقوق الإنسان،
- اللواء أحمد العوضي رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي.
هذه الإطاحة الجماعية، التي وصفتها مصادر برلمانية بـ"الزلزال السياسي"، تثير تساؤلات حول ما إذا كانت الدولة تسعى لإنتاج برلمان جديد بالكامل يخلو من الشخصيات ذات الثقل المستقل، لصالح وجوه حديثة العهد أكثر خضوعاً للتوجيهات الرسمية.
قانون انتخاب مفصّل... ونظام مغلق
في ظل هذه التطورات، يرى الخبراء أن قانون الانتخابات الحالي هو أصل الأزمة، إذ يمنح قيادات الأحزاب – وغالباً من المقربين من السلطة – صلاحية مطلقة في اختيار المرشحين من خلال نظام القائمة المغلقة المطلقة، الذي يحتكر نصف مقاعد البرلمان ويقضي فعلياً على فرص المستقلين والمعارضين.
وبينما تبرر الحكومة هذا النظام بأنه يضمن "الاستقرار السياسي"، يرى معارضوها أنه يكرّس للفساد والمحسوبية ويحوّل الانتخابات إلى عملية شكلية لا تمتّ للديمقراطية بصلة.
في المحصلة، يبدو أن انتخابات 2025 تتجه لأن تكون تكراراً لنموذج معروف سلفاً: برلمان بلا معارضة، وقوائم تحددها الولاءات لا الكفاءات. وبينما ترفع الحكومة شعار "العبور نحو الجمهورية الجديدة"، يرى كثير من المراقبين أن ما يُبنى فعلاً هو جدار جديد من الإقصاء، يعزل السياسة عن الشعب ويعيد إنتاج برلمان تابع لا يملك من أمره إلا التهليل للسلطة.