أثارت قرارات عبد الفتاح السيسي الأخيرة بتعيين مئة عضو في مجلس الشيوخ موجة واسعة من الانتقادات، خصوصًا في الأوساط السياسية الوطنية، التي رأت في الخطوة استمرارًا لنهج إحكام السيطرة على مؤسسات الدولة وإفراغ الحياة السياسية من مضمونها. فبدلًا من أن تكون التعيينات وسيلة لإثراء العمل التشريعي والاستشاري بخبرات متنوعة، اعتُبرت مكافأة للموالين وتكريسًا لواقع الغرفة التشريعية التي تتحرك بإشارة من السلطة التنفيذية.
هيمنة متجددة وتهميش للتعددية
يرى محللون سياسيون أن قائمة المعيّنين الجديدة تعكس حرص النظام على إحكام قبضته على مجلس الشيوخ، إذ ضمّت شخصيات من أحزاب مؤيدة وأخرى من الإعلام والفن، في حين غابت الكفاءات. وبذلك، يقول مراقبون إن المجلس بات أقرب إلى هيئة تمثيلية شكلية لا تمتلك تأثيرًا حقيقيًا في صناعة القرار، بل تكرّس مشهد “الصوت الواحد”.
ويشير الخبير السياسي عمرو هاشم ربيع إلى أن العملية الانتخابية التي سبقت التعيينات كانت أقرب إلى “الاختيار المسبق” لا إلى “الانتخاب الحر”، حيث سيطرت "القائمة الوطنية" المدعومة من السلطة على غالبية المقاعد المنتخبة، ما أفقد العملية التنافسية معناها. ومع إضافة الثلث المعيّن بقرار رئاسي، يصبح المجلس في معظمه انعكاسًا لإرادة السلطة التنفيذية، لا تمثيلًا حقيقيًا للمجتمع.
مكافأة الكومبارس
كما أثار تعيين السيسي عبد السند يمامة وحازم عمر، منافسيه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في مجلس الشيوخ موجة انتقادات حادة، اعتبرها خبراء "مكافأة على التمثيل" في سباق انتخابي محسوم سلفاً. يرى محللون أن التعيين يرسخ نمط الحكم القائم على احتواء الخصوم وتفريغ السياسة من مضمونها، حيث تتحول الانتخابات إلى عرض شكلي لإضفاء الشرعية على استمرار النظام، بينما تُمنح المناصب لاحقاً لمن أدوا دور "الكومبارس" السياسي. ويؤكد منتقدون أن هذه الخطوة تكشف أن السيسي لا يقبل بمعارضة حقيقية، بل يصنع معارضيه ويكافئهم على الطاعة، مما يحول مجلس الشيوخ إلى أداة للترضية السياسية لا للحوار الوطني. وبدلاً من فتح المجال لتعددية سياسية حقيقية، يواصل النظام سياسة إحكام القبضة على المشهد، لتبقى المنافسة وهماً، والمكافأة لمن يخدم الرواية الرسمية.
مجلس بلا معارضة ولا توازن
انتقادات الخبراء لم تتوقف عند شكل التعيينات بل طالت مضمونها، إذ خلت القوائم من ممثلين عن الأحزاب المعارضة الفاعلة مثل الكرامة، والتحالف الشعبي، والدستور، رغم الدعوات التي سبقت القرار بضرورة منحهم تمثيلًا متوازنًا يعكس تنوع الساحة السياسية.
ويرى االسياسي محمد سامي، الرئيس الشرفي لحزب الكرامة، أن النظام الانتخابي القائم على القوائم المغلقة “ألغى روح المنافسة” ومنح الأحزاب الموالية ذات النفوذ المالي والتنظيمي السيطرة الكاملة على النتائج.
ووفقًا لمراقبين، فإن هذا الإقصاء المتعمد لأصحاب الكفاءات حوّل مجلس الشيوخ إلى “منصة للمكافآت السياسية”، حيث يُكافأ المقرّبون ويُستبعد المختلفون. ويتجسد ذلك في تعيين شخصيات من الوسط الفني مثل ياسر جلال، الذي وجّه الشكر للسيسي على “دعمه للفن والثقافة”، وهو ما يراه منتقدون دليلاً على أن معايير الاختيار لا تستند إلى الكفاءة السياسية أو الخبرة التشريعية، بل إلى الولاء والمجاملة.
تكرار لأساليب الماضي
يشبّه عدد من المحللين هذه الممارسات بما كان يحدث في عهد حسني مبارك، حين كانت التعيينات في مجلس الشورى تستخدم لمكافأة الموالين ومنح الحصانة لرجال الأعمال والوزراء السابقين. وكان الهدف الأصلي من فكرة التعيين إشراك أصحاب الخبرات الذين لا يخوضون الانتخابات، لكن هذا المفهوم تبدد تدريجيًا، ليتحول إلى وسيلة لتلميع الوجوه المقربة من السلطة.
ويرى الخبير عمرو هاشم ربيع أن “التجربة الراهنة لا تختلف كثيرًا عن الماضي”، إذ تُدار العملية السياسية بالكامل من داخل أروقة السلطة التنفيذية، بينما يُترك للمؤسسات التشريعية دور استشاري محدود يُستخدم لتجميل صورة النظام في الخارج.
فرص ضائعة للإصلاح
كان يمكن لهذه التعيينات، في نظر كثيرين، أن تكون فرصة لإعادة التوازن إلى المشهد السياسي المتجمد، عبر إشراك الكفاءات والخبراء في مجالات الاقتصاد والأمن المائي والتحول الرقمي. وقد دعت النائبة السابقة أمينة النقاش إلى أن تركز التعيينات على “الكفاءة قبل الولاء”، حتى يتحول المجلس إلى منبر للنقاش الجاد حول التحديات الوطنية.
لكن القائمة النهائية، كما يقول المراقبون، بددت تلك الآمال، وأكدت أن الهدف لم يكن إصلاح الخلل التشريعي أو دعم التنوع السياسي، بل ضمان الانسجام التام بين مختلف مؤسسات الدولة في خدمة رؤية السلطة.
غرفة استشارية أم أداة سياسية؟
بهذا الشكل، يبدو أن مجلس الشيوخ في تشكيله الجديد يسير على خطى سلفه — مجلس 2020 — الذي وصفه منتقدون بأنه “ديكور سياسي” يفتقر إلى القدرة على التأثير الفعلي في السياسات العامة. فبدلًا من أن يكون ساحة لإثراء الحوار الوطني ومراقبة الأداء الحكومي، تحوّل إلى أداة لتثبيت مركزية القرار بيد الرئيس ودائرته الضيقة.
وهكذا، يرى الخبراء أن تعيينات السيسي الأخيرة لم تترك مجالًا للشك: الغرفة التشريعية الثانية في مصر لم تعد مساحة للنقاش أو الاستشارة، بل جزءًا من هندسة سياسية تُقصي الكفاءات وتكرّس حكم الفرد.