صرخات ممزوجة بالدموع بالدموع، لخصت المشهد المأساوي الذي هز مدينة الدقهلية أمس، بعد مقتل ثلاثة شباب برصاص قوات الأمن، في حادثة أشعلت موجة غضب واسعة وفضحت مرة أخرى الرواية الأمنية المتكررة والمستهلكة لوزارة الداخلية. فبينما سارعت الوزارة إلى وصم الشباب بأنهم "عناصر إجرامية شديدة الخطورة وتجار مخدرات"، تكشفت الحقائق تباعاً لتنسف هذه الرواية من أساسها، وتؤكد أن ما جرى لم يكن تبادل إطلاق نار، بل عملية تصفية خارج إطار القانون لشباب بشهادة الجميع "ملهمش في أي حاجة".

ومع ظهور شهادات ووثائق تفضح كذب الرواية الرسمية. أبرز هذه الشهادات جاءت من المعهد العالي للهندسة والتكنولوجيا بالمنزلة، الذي يدرس به أحد الضحايا، حيث أصدر المعهد بياناً يشيد فيه بأخلاق الطالب وسيرته الحسنة، وهو ما يتناقض كلياً مع اتهامات "الإجرام" التي ساقتها الداخلية.


بالإضافة إلى ذلك، أكدت مصادر محلية أن صحيفة الحالة الجنائية "الفيش والتشبيه" للشباب الثلاثة جاءت نظيفة تماماً، مما يطرح تساؤلاً بديهياً: كيف يستقيم وصفهم بـ"شديدي الخطورة" مع سجلهم الجنائي الأبيض؟


 

 

تفاصيل الحادث
في منطقة "حوض الغندور" بمركز منية النصر بمحافظة الدقهلية في الثاني من سبتمبر الماضي. الحادثة، التي وصفتها الشبكة بأنها "جريمة قتل ميداني مكتملة الأركان"، أسفرت عن مقتل ثلاثة شبان جامعيين كانوا يستقلون مركبة "توكتوك"
ووثّقت الشبكة المصرية قيام قوات الأمن بمحافظة الدقهلية عصر يوم الثاني من سبتمبر الماضي بتصفية ثلاثة من شباب المحافظة، هم:

  • أحمد الشربينى المغاورى الشربينى ،22 عاما ،خريج كليه الاداب دفعة 2024/25 بجامعة الدلتا للعلوم والتكنولوجيا
  • الكيماوي مروان وائل البيلى 21 عاما ، الموظف بمحطة دقهله 1 بشركة مياة الشرب والصرف الصحى  بدمياط والمشهود له بحسن السير والسلوك بين زملايه واهالى قريته ولم يصدر بحقه اى احكام قضائية غيابية او حضوريا ولم يكن مطلوبا للقبض عليه
  • الطالب عمر حاتم المندرة الطالب بالفرقة الثالثة بقسم الهندسة الالكترونية بالمعهد العالى للتكنولوجيا بالمنزله

مرفق نعى على الصفحة الرسمية للمعهد العالى للتكنولوجيا حيث يصفه النعى "فقدنا شابا خلوقا ومجتهدا بين زملايه وأساتذته".


بحسب شهود عيان، فإن قوة أمنية كانت تداهم وكراً للمخدرات في المنطقة، وحين حاول الشبان الابتعاد بمركبتهم، اصطدموا بجرار شرطة، فبادر الضابط محمد صبح، من مباحث منية النصر، بإطلاق النار عليهم مباشرة.
وأكدت الشبكة المصرية أن الضحايا لديهم سجلات جنائية نظيفة، وأن رواية وزارة الداخلية عن تبادل إطلاق النار هي "مختلقة ومكررة"، وتأتي ضمن سياسة الإفلات من العقاب. وأضاف شهود العيان أن قوات الأمن امتنعت عن إسعافهم ونقلتهم أولاً إلى قسم الشرطة، مما أخر وصولهم للمستشفى وتسبب في وفاتهم.
 

الداخلية.. سيناريو التصفية المكرر
لم تكن رواية الداخلية في حادثة الدقهلية جديدة، بل هي نسخة مكررة من سيناريو اعتادت الوزارة على تقديمه في كل مرة تقوم فيها بتصفية مواطنين خارج إطار القانون. يعتمد هذا السيناريو على محاور ثابتة:

  • الشيطنة المسبقة: يتم وصم الضحايا بأنهم "عناصر إجرامية خطرة"، "تجار مخدرات"، أو "إرهابيون"، وهي تهم جاهزة لتبرير القتل.
  • رواية الاشتباك: تدعي البيانات الأمنية دائماً أن القتلى بادروا بإطلاق النار على القوات، مما اضطرها للتعامل معهم وقتلهم في "تبادل لإطلاق النار".
  • الأحراز الملفقة: عادة ما تعلن الوزارة عن ضبط أسلحة نارية وكميات من المخدرات بحوزة القتلى، وهي أحراز يصعب التحقق من صحتها بعد مقتل المتهمين.

هذا النمط تكرر في بيانات عديدة لوزارة الداخلية خلال السنوات الأخيرة، حيث أعلنت عن مقتل العشرات بدعوى انخراطهم في تجارة المخدرات أو الإرهاب، دون تقديم أي منهم لمحاكمة عادلة. وهو ما يجعل المواطنين، خاصة في مدن معروفة بتاريخها النضالي كالمحلة الكبرى، يفقدون الثقة تماماً في أي رواية أمنية.
 

شهادات تدحض الرواية الأمنية
في مواجهة الرواية الرسمية، برزت شهادات قوية من محيط الشباب الضحايا. بيان معهد الهندسة بالمنزلة لم يكن مجرد شهادة بحسن السير والسلوك، بل كان بمثابة صفعة للرواية الأمنية، حيث أن مؤسسة تعليمية رسمية تجرأت على تكذيب بيان وزارة الداخلية بشكل غير مباشر. هذا الموقف النادر منح زخماً كبيراً للرواية الشعبية التي تؤكد براءة الشباب.

يضاف إلى ذلك، شهادات الأهالي والجيران التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أجمعت على أن الشباب كانوا من خيرة أبناء المنطقة، ولا علاقة لهم بأي نشاط إجرامي. هذه الشهادات، مدعومة بالسجل الجنائي النظيف، حولت الحادثة في نظر الرأي العام من "مداهمة أمنية" إلى "جريمة قتل بدم بارد".

إن حادثة الدقهلية ليست مجرد جريمة قتل لثلاثة شباب، بل هي كاشفة لمدى استخفاف أجهزة الدولة بأرواح المواطنين، واعتمادها على القتل كأداة لإرهاب المجتمع وفرض السيطرة. صرخة شقيق الضحية، وبيان معهد الهندسة، وصحائف الحالة الجنائية البيضاء، كلها أدلة دامغة على أن رواية الداخلية لم تعد تقنع أحداً. لقد أصبح واضحاً أن سياسة "التصفية ثم التبرير" هي عقيدة راسخة لدى نظام لا يعرف من لغة القانون إلا اسمها.