في العقد الذي تلا انقلاب 2013، تحوّلت مؤسسات الدولة في مصر إلى منظومة تهيمن عليها مصالح سياسية واقتصادية مرتبطة بالدولة والجيش، ما أفسح المجال لممارسات فساد منسقة أدت إلى تآكل جودة الخدمات العامة الأساسية.

هذا التدهور لا يبقى في خانة الشعور العام فحسب، بل يظهر بوضوح في مؤشرات شفافية وبيانات رسمية وتقارير منظمات دولية تُبرز تراجع اعتماد الحوكمة والشفافية.
 

مقياس الفساد.. مؤشر دولي يفضح الوضع
أبرز مؤشر خارجي يُستخدم لقياس عمق المشكلة هو مؤشر مدركات الفساد؛ في نسخة 2024 سجّلت مصر درجة متدنية (حول 30 نقطة) واحتلت مراتب متأخرة بين 180 دولة، مع تراجع واضح مقارنة بالسنوات السابقة.

هذا الانخفاض في التقييم الدولي يعكس ضعف نظم الرقابة والمشتريات العامة وغياب المساءلة في مؤسسات حيوية تُدير موارد المواطنين. مثل هذه النتائج لا تظل نظرية، بل تعكس أرضية واقعية تبرر القلق على الأموال العامة والخدمات.
 

فضائح فساد مالي وإداري تلقي بظلال قاتمة على الدولة
استشرت قضايا الفساد المالي والإداري في شتى مؤسسات الدولة، كان من أبرزها قضايا فساد داخل الهيئة التنفيذية لمياه الشرب والصرف الصحي بالبحر الأحمر، حيث ارتفعت قيم الرشاوى إلى 170 ألف دولار، لكن هذا جزء من سلسلة تسريبات وفضائح منها فساد احتساب الأموال الحكومية المودعة في حسابات غير مدققة والبالغة 9.4 مليار دولار في الفترة 2012-2013، إضافة إلى هدر نحو 600 مليار جنيه من المال العام.

كما كشف تحقيق حول فساد في شركة تابعة للمخابرات الفنية عن هدر 800 مليون جنيه. هذا إلى جانب تورط جنرالات في قضايا فساد ضخمة وعلى نطاق واسع، وبعضهم حصل على حماية من النظام لتغطية تلك القضايا.
 

فساد مؤسسي.. نموذج اقتصاد الدولة والجيش كمِحرّك للفساد
تقارير مؤسسات مالية دولية تشير إلى أن هيمنة شركات الدولة والمؤسسات المرتبطة بالجيش على الاقتصاد تُساعد على إضعاف المنافسة والشفافية؛ امتيازات ضريبية، وصول ميسّر للأراضي والعقود، وإعفاءات تنظيمية تسمح بتحويل موارد عامة إلى دوائر مغلقة تفتقر لحُسن الإدارة المالية.

صندوق النقد الدولي ربط هذا النموذج بعوائق أمام الإصلاحات وذكر خسائر إيرادات مهمة (مثل تراجع إيرادات قناة السويس بمليارات الدولارات في فترات معيّنة) وارتفاع عبء الدين الخارجي، مما يُضاعف كلفة سوء الإدارة والفساد على المجتمع.
 

أثر الفساد على الصحة العامة.. مؤشرات إنفاق وكفاءة متردية
القطاع الصحي يعاني من قصور ملموس؛ بيانات منظمة الصحة العالمية تُظهر مستويات إنفاق صحي كنسبة من الناتج المحلي، ومؤشرات سرير/نسبة السكان وموارد طبية لا تعكس احتياجات تعداد كبير (أكثر من 114 مليون نسمة في 2023).

عندما تُدار موارد كبيرة دون شفافية، يتراجع الإنفاق الفعّال على مستشفيات مؤهلة وتجهيزات طبية، فتتعاظم قوائم الانتظار وتزداد الضغوط على منشآت الطوارئ والحوامل وكبار السن. هذا يعني أن الفساد لا يسرق أموالاً وحسب، بل يسرق أمان المواطنين على صحتهم.
 

أثر الفساد على التعليم.. صفوف مكتظة وفصول ناقصة
البيانات الميدانية وتقارير منظمات حقوقية ومنظمات دولية ومن بينها تقارير البنك الدولي ومنظمات حقوقية، تشير إلى وجود نقص حاد في عدد الفصول وتكدسٍ يصل في كثير من المناطق إلى عشرات الطلاب داخل الفصل الواحد؛ في 2024 أعلنت وزارة التعليم وجود نقص يقدّر بعشرات الآلاف من الفصول، بينما منظمات حقوقية وثّقت حالات غياب للمقاعد والكتب وارتفاع نسب التغيب المرتبطة بتردّي الخدمات.

هذه الأزمة تُرجِع الاقتصاد إلى حلقة مفرغة، تدهور جودة التعليم يضيّق مستقبل العمالة الماهرة ويقوّض فرص النمو الطويل الأمد.
 

فضائح ونهب موارد.. لماذا القصة ليست عشوائية؟
قضايا الفساد التي تُنشر بين حين وآخر، من صفقات مشروعات كبرى بلا مناقصات شفافة إلى تحويلات مالية مشبوهة في مؤسّسات عامة، لا تُعزى إلى أخطاء فردية بقدر ما هي نتاج بنية مؤسسية تمنح امتيازات دون تدقيق.

غياب استقلالية القضاء، تزايد الصلاحيات الإدارية المركزية، وإحكام الأجهزة الأمنية لملف التحقيقات المالية تُضعف قدرة الصحافة والمجتمع المدني على كشف المكامن، ما يجعل محاسبة الفاسدين نادرة أو شكلية.

تقارير الاستثمار الأميركية نفسها تشير إلى أن الشركات الأميركية تعتبر الفساد عائقاً أمام الاستثمار في مصر، ما يعكس أثر المشكلة على الاقتصاد الكلي.

الاعتماد الدولي على مصر في قضايا إقليمية واقتصادية لا يلغى المخاوف؛ منظمات حقوقية ودبلوماسيون أشاروا مراراً إلى أن الدعم المالي أو السياسي لا ينبغي أن يغضّ النظر عن الحاجة لإصلاحات شفافية ومساءلة.

تصريحات منظمات دولية وخبراء تربط بين التمويل الخارجي والحاجة لشروط إصلاحية واضحة، ما يضع حكومة الانقلاب في مأزق بين الاستفادة من الدعم والقبول بشروط قد تحدّ من الدوائر المغلقة.

الفساد تحت حكم قائد الانقلاب العسكري لم يَكن مجرد عنوان صحفي، بل واقع يومي تكبّده المواطنون؛ تردّي خدمات صحية وتعليمية، هدر موارد عامة، وفُرص اقتصادية ضائعة.