في وقت يرزح فيه المواطن المصري تحت وطأة أزمة معيشية خانقة وارتفاع غير مسبوق في الأسعار، أعلنت مؤسسة التمويل الدولية (IFC) عن تقديم تمويلات بقيمة 500 مليون دولار لمصر خلال العام الجاري، بزعم مواجهة التغيرات المناخية. الإعلان الذي جاء على لسان جوخان كونت، مدير مجموعة المؤسسات المالية في أفريقيا بالمؤسسة، خلال مؤتمر صحفي بالقاهرة، أضاف حلقة جديدة إلى مسلسل ديون نظام قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي الذي لا ينتهي، وسط تساؤلات متزايدة حول جدوى هذه القروض ومآلاتها الحقيقية على الاقتصاد المصري.

 

شعار المناخ.. واجهة لقروض متراكمة

التمويل الجديد يأتي تحت لافتة "مواجهة التغيرات المناخية"، وهي العبارة التي تكرّرها حكومة السيسي في السنوات الأخيرة لتبرير استقبال المزيد من القروض والمنح الدولية. ورغم أن الخطاب الرسمي يروّج لهذه المشاريع بوصفها خطوات نحو “التحول الأخضر” والتنمية المستدامة، إلا أن الواقع الاقتصادي المتدهور يلقي بظلاله على هذه الادعاءات.

فبينما تخصص الحكومة مئات الملايين من الدولارات لمشاريع خضراء لا تتوافر حولها أي شفافية أو متابعة حقيقية، يعيش ملايين المصريين حالة من الإنهاك الاقتصادي نتيجة موجات الغلاء المتتالية وتراجع القدرة الشرائية وتآكل الدخول.

ويشير خبراء إلى أن هذه التمويلات لا تسهم في معالجة جذور الأزمة الاقتصادية، بل تُستخدم غالباً كمسكنات قصيرة الأجل لأزمة السيولة الخانقة التي تمر بها الدولة. وغالباً ما تُوجّه القروض الجديدة لسداد فوائد وأقساط ديون سابقة، ما يجعلها دائرة مغلقة من الاقتراض غير المنتج الذي يفاقم الأزمة بدلاً من حلها.

 

اقتصاد العسكر وغياب الأولويات

يرى محللون اقتصاديون أن القرض الجديد يصب في صالح ما بات يُعرف بـ“اقتصاد العسكر”، وهو النموذج الذي رسّخه النظام الحالي ويقوم على التوسع الهائل في الاقتراض الخارجي لتمويل مشروعات ضخمة تسيطر عليها جهات سيادية وشركات تابعة للمؤسسة العسكرية.

وبينما تُبرر الحكومة هذه المشروعات بأنها “قومية” و“تنموية”، فإن مردودها الفعلي على الاقتصاد الكلي والمواطن محدود للغاية. فهي لا توفر فرص عمل مستدامة، ولا تسهم في تحفيز الإنتاج المحلي، بل تعتمد على استيراد واسع للمواد والخدمات، ما يفاقم نزيف العملة الصعبة ويزيد من أعباء المديونية.

بحسب بيانات رسمية، تجاوز الدين الخارجي لمصر حاجز 165 مليار دولار، وهو رقم يثير القلق إذ تستهلك فوائده وأقساطه أكثر من نصف إيرادات الموازنة العامة. في المقابل، تتراجع مخصصات قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة، فيما يتم رفع أسعار الخدمات الأساسية والضرائب لتعويض العجز المالي المتزايد.

 

قروض بلا أثر اجتماعي

في ظل هذا الواقع، يبرز تساؤل جوهري بين المراقبين: ما جدوى ضخ 500 مليون دولار لمشروعات مناخية بعيدة الأثر في وقت يعاني فيه المواطن من صعوبة تأمين احتياجاته اليومية؟

الخبراء يحذرون من أن هذه القروض تفتقر إلى أولويات واقعية، إذ لا ترتبط بسياسات تشغيل أو دعم مباشر للفئات المتضررة. بل يتم توجيهها لمشاريع استعراضية أو للبنية التحتية في قطاعات تخدم النخبة الاقتصادية، من دون أي انعكاس ملموس على حياة الناس.

كما يُنظر إلى القروض “الخضراء” على أنها وسيلة لتلميع صورة النظام أمام المؤسسات الدولية، أكثر من كونها سياسة تنموية حقيقية. فالدعم الدولي في هذا الإطار غالباً ما يرتبط بشروط وإملاءات اقتصادية تؤدي إلى مزيد من الإجراءات التقشفية التي تثقل كاهل المواطن، كرفع الدعم عن الوقود والكهرباء، وتحرير أسعار السلع الأساسية.

 

أعباء على الحاضر ورهن للمستقبل

يرى مراقبون أن استمرار الحكومة في النهج القائم على الاستدانة بلا إصلاح اقتصادي حقيقي يُعدّ رهاناً خطيراً يرهن مستقبل الأجيال القادمة. فكل قرض جديد يعني المزيد من التبعية المالية للدائنين الدوليين، ويقلل من استقلال القرار الاقتصادي المصري.

وفي حين تروّج الحكومة لهذه التمويلات كدليل على الثقة الدولية، يراها الاقتصاديون مؤشراً على هشاشة الوضع المالي، إذ تلجأ الدولة إلى الاقتراض لسد فجوات الإنفاق لا لتمويل مشاريع إنتاجية حقيقية.

 

قروض تتجدد وأزمة تتعمق

في النهاية، فإن إعلان مؤسسة التمويل الدولية عن تمويل جديد لمصر بقيمة 500 مليون دولار لا يمثل خبراً إيجابياً بقدر ما يعكس استمرار النهج الاقتصادي ذاته الذي أوصل البلاد إلى حافة الهاوية.

فبدلاً من معالجة جذور الأزمة عبر تشجيع الإنتاج، وإعادة هيكلة الاقتصاد بعيداً عن هيمنة العسكر والاقتراض، تستمر الحكومة في السير على نفس الطريق الذي يضاعف الأعباء على المواطن. وبينما تتحدث السلطة عن “مشروعات مناخية” و“تنمية خضراء”، يعيش المواطن المصري واقعاً رمادياً من الغلاء والتقشف والفقر المتصاعد.

إن ما تحتاجه مصر اليوم ليس مزيداً من القروض، بل إصلاحاً اقتصادياً حقيقياً يعيد ترتيب الأولويات ويضع الإنسان في قلب السياسات العامة، قبل أن يغرق البلد أكثر في دوامة ديون لا مخرج منها.