في خطابٍ وجّهَه قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي صباح يوم 8 أكتوبر 2025، حاول أن يُشيِّد صورةَ الدولة القوية والوسيط الفاعل في أزمة غزة، بينما بدت عباراته لدى مراقبين كثيرين متردِّدة ومُكرَّرة إلى حد الابتذال، وكأنها محاولة لامتصاص قلق داخلي وطمأنة خارجي متزامن، تصريحاته الرسمية نُشرت عبر موقع الرئاسة وتغطيات صحفية محلية ودولية.
 

لماذا بدا الخطاب مرتبكاً؟

الخطاب تضمن مزجًا بين رسائل داخلية (تأكيد على الانضباط والدور العسكري والتعليم العسكري) ورسائل خارجية (دور الوساطة ودعوة فعلية لشخصيات دولية).

هذا الخلط والانتقال السريع من مخاطبة الجمهور إلى مخاطبة تحالفات دولية، أوجد إحساسًا ببُعدين لسرد الدولة: واحد يبرِّر إجراءات قمعية باسم الاستقرار وآخر يحاول إعادة بناء صورة مصر على الساحة الإقليمية.

تصريحٌ بارز على هذا النحو كان دعوته غير التقليدية الموجهة إلى شخصيات دولية مثل دونالد ترامب لحضور توقيع أي اتفاق سلام محتمل عبارة أثارت دهشة وسائل إعلام غربية.
 

إشارات الخوف.. لماذا يخشى السيسي بعد 3 يوليو 2013؟

الإنقلاب العسكري الذي قادَه السيسي وقع في 3 يوليو 2013؛ إذًا مرّ على حدث السلطة العسكرية نحو اثنتا عشر عاماً و(عدة أشهر) حتى تاريخ 8 أكتوبر 2025، هذه المعلومة التاريخية مهمة لأن ما يميّز خطاب السيسي اليوم هو أنّه يتحدث كقائدٍ لازالت شرعيته قائمة على الاحتكام إلى القوة والجيش لا إلى التوافق الشعبي.
 

ماذا يبرّر لنفسه عدم الخيانة؟ خطابُ البراءة الوطنية

السيسي يتكرر في خطاباته بأنّ ما قام به منع خيانة أو حماية الدولة من الفوضى والثورات، خطابٌ يروِّج لشرعية التدخّل العسكري على أساس منع الانهيار، لكن هذا التبرير يتصادم مع أرقام حقوقية وتقارير مستقلة تُظهر أن سياسات ما بعد 2013 ارتبطت بحملات اعتقال واسعة وملاحقات لقادة معارضين وصحفيين ونشطاء، وهو ما يُسقط الكثير من حجج الحماية الوطنية ويُبرر اتهامات واسعة بالقمع.

في خطاباته وتصريحاته المتكررة، يبرر السيسي موقفه من خلال تصوير نفسه كمنقذ للوطن من "الفوضى والثورات" التي اعتبرها سبب الأزمات، كما يرفض أي فكرة عن الخيانة لنفسه أو لمصر رغم انتقادات واسعة عما يراه مراقبون فشلاً ذريعا في حكمه.

التصريحات تشير إلى إصرار على ربط بقاء الدولة واستقرارها بسطوة المؤسسة العسكرية وحصار المعارضة، والتقليل من أي صوت معارض أو مفسر للفشل السياسي والفقر الاقتصادي كخيانة أو مؤامرة.

هذه الرؤية تجعل السيسي يعيش في وضعية دفاعية مستمرة تجاه تهديدات داخلية وخارجية، وهذه النفسية تعبر عن خوف عميق من خسارة السلطة، إذ إنه يرى أن أي تنازل عن حيز سلطته هو خيانة لمشروعه الذي قام عليه الانقلاب.
 

قمع المجتمع المدني

منظمات حقوقية كـHuman Rights Watch وAmnesty  وثّقت أن آلافَ المعتقلين السياسيين ما زالوا رهن الاحتجاز، وكانت هناك موجات اعتقال وإجراءات قضائية وصفتها التقارير بأنها قمع ممنهج.

تقرير منظمة Women Journalists Without Chains بلغ حَدَّ أقوالٍ تفيد بوجود أرقامٍ تصل بحسب تحليلاتها إلى عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين منذ 2013، بينما سجّلت منظمات دولية حالات اعتقال وإعادة اعتقالات حتى أعوام 2024–2025، هذه الحقائق تضع تناقضًا بين خطاب الدولة القوية وواقع الاحتجاز والقمع.
 

أدلة على عقلية أمنية مفرطة

في خطابٍ لاحق وبالتزامن مع فعاليات أكاديمية الشرطة في 8 أكتوبر، وردت تصريحاتٌ تُشترط الالتحاق بفترة دراسية عسكرية للالتحاق بالوظائف العامة أو القضاء أو الشرطة، سياسةٌ تبدو وكأنها محاولة لتمرير عسكرة واسعة للمجال المدني وتطويق أي مساحات مستقلة عبر ثقافة الانضباط العسكري.

هذا النوع من الإجراءات يفسّر جزئيًا لماذا يخشى النظام اليوم أي تراجع في سلطته؛ لأن الدولة باتت تُدار جزئيًا بشبكات مؤسسية عسكرية.
 

انعكاسات خارجية.. وساطة أم استجداء شرعية دولية؟

خارجياً، خطابه تزامن مع تحركات دبلوماسية مكالمات مع رؤساء دول، إشادات من قادة إقليميين مثل الرئيس الجزائري تبون ومحاولات لرفع السقف الدبلوماسي لمصر كوسيط في أزمات إقليمية.

لكن هذا الهمّ الدبلوماسي قد يكون كذلك طريقة لصبغ صورة النظام وطلب غطاء دولي أمام ضغوط حقوقية واقتصادية داخلية.
 

منطقُ الخوف واستمراريةُ الانقسام

تصريحات 8 أكتوبر 2025 ليست حادثة، بل انعكاسٌ مُركّبٌ لمشاعرٍ سلطوية مزيجها خوف من فقدان السيطرة داخليًا، وحاجة لشرعيةٍ إقليمية ودولية خارجيًا.

تبريرات منع الخيانة وحماية الدولة لم تُنهِ الشكوك حول قمع المعارضة أو عنف الاحتجاز، ولا تنسجم مع بيانات منظمات حقوقية دولية توثّق آلاف القضايا من الاعتقال والاحتجاز التعسفي.

على مدى اثني عشر عامًا بعد 3 يوليو 2013، بات خطاب السيسي اليوم مزيجًا من العُدّة العسكرية والدبلوماسية، محاولة للحفاظ على نظامٍ بُني على القوة أكثر منه على الشرعية الشعبية.