تتجه حكومة الانقلاب بقيادة عبد الفتاح السيسي إلى إبرام صفقة تطوير مدينة جديدة في الساحل الشمالي رأس الحكمة بالتعاون مع مستثمرين إماراتيين، في صفقة تُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات وتثير تساؤلات عن تكرار تفريط الدولة في أراضي وسياسات سيادية مقابل سيولة مؤقتة.

الصفقة، التي أعلنها رسمياً في فبراير 2024، تُعرض كحل لأزمة العملة والديون، بينما يراها نقاد وسياسيون واقتصاديون ضماناً لبقاء نظام متورط في أزمات هيكلية.

 

صفقة رأس الحكمة.. ما المعلوم رقمياً؟

بحسب إعلانات رسمية وتقارير صحفية، تُقدَّم لمستثمر إماراتي تقوده جهات مثل ADQ حقوق تطوير واسعة على شبه جزيرة رأس الحكمة.

الأرقام المتداولة تشير إلى استثمارات قُدِّرت بين 24 و35 مليار دولار لحقوق الأرض والمراحل الأولى من التطوير، بينما يُعلن عن طموح إجمالي استثماري يصل إلى نحو 150 مليار دولار على مدى عدة سنوات.

المساحة المتنازع عليها تقارب 171 كيلومتر مربع، حوالي 42 ألف فدان، وهي عملية تُعد من أكبر صفقات الأراضي في تاريخ مصر الحديث.

السياسية ومدافعون عن الشأن العام يرون في الصفقة نسقاً متكرراً، بيع أو تأجير ممتلكات وطنية لكبار المستثمرين الخليجيين مقابل سيولة عاجلة تساعد على سد ثغرات الميزانية ودفع التزامات ديون قصيرة الأجل.

ناقدون اقتصاديون، ومنهم تيموثي كالداش من معهد التحرير، حذَّروا من أن صفقات من هذا النوع قد تكون حبل نجاة مؤقتاً للقيادة لكنها لا تحل جذور الأزمة الاقتصادية ولا تضيف إنتاجاً أو عائداً مستداماً للاقتصاد المصري.

كما أثيرت مخاوف بشأن غياب الشفافية في البنود القانونية؛ هل هي بيع دائم أم حق تطوير/إدارة؟ وما مستوى الضمانات لحماية البيئة وسكان المنطقة؟

 

التفريط في الأراضي المصرية وأسبابها

الأزمة الاقتصادية التي صنعها النظام نفسه، والاعتماد على بيع أصول الدولة النقدية كأرض الوطن لتحقيق إيرادات بالدولار، دفع إلى تكرار صفقات بيع الأراضي مثل مشروع رأس الحكمة.

هذه الصفقات ساهمت في خسارة مصر لمساحات كبيرة من الأرض، حيث تشير تقارير إلى أن أراضي الدولة التي تم الاستيلاء عليها وصلت إلى نحو 16 مليون فدان، قيمتها بحسب بعض التقديرات تصل إلى 900 مليار جنيه.

كما تحولت المؤسسة العسكرية لقوة استثمارية مسيطرة على الأراضي، مستغلة قرارات رئاسية مباشرة تهدف لتمكينها اقتصادياً ضمن هذا النظام

بجانب الانتقادات الشعبية، أدلى سياسيون وخبراء اقتصاديون بتصريحات ضد سياسات التفريط في أراضي الدولة بحجة جذب الاستثمارات.

نجيب ساويرس، أحد أهم رجال الأعمال المحسوبون على نظام الانقلاب المصري، وصف بيع الأراضي بأنه حل مؤقت لمشكلة الديون، لكنه أكد أن الأزمة الاقتصادية لم تنته.

بعض المحللين يرون أن هذه السياسة هي "خيانة وطنية" لأنها تفقد مصر سيادتها على أراضيها مقابل أزمات نقدية مصطنعة وموجهة.

 

تكرار بيع الأراضي والخطر السيادي

المواطن العادي يلمس نمطاً متكرراً خلال السنوات الأخيرة؛ أراضٍ استراتيجية وممتلكات عامة تُمنح لشركاء خليجيين أو يتم وضعها ضمن مناطق حرة بقوانين خاصة تقيّد قدرة الدولة على الرقابة والضرائب.

الصحافة الدولية وصحف التحليل تحدثت عن بَيعٍ متزايد للأصول مقابل حزم مالية طارئة، بينما يرى ناشطون أن ذلك يقوّض السيادة ويؤسس لاقتصاد تابع لا يقوم على إنتاج حقيقي أو تنويع يصنع عملة صعبة.

تقارير فرنسية وبريطانية أبرزت أن هذه الصفقات مرتبطة بضغط الخدمة على الدين الخارجي ومحدودية الاحتياطيات الأجنبية.

ليس الجدال اقتصادياً فقط؛ هناك تحذيرات من أضرار بيئية جسيمة؛ التطوير الكثيف للساحل يهدد المواطن البحرية والنظام الإيكولوجي للبحر الأبيض المتوسط، وقد يطال تهجيراً للسكان المحليين أو سلب أراضيهم بالتعويضات الضئيلة.

جهات حقوقية ونقابية وثقت مخاوف من تهميش السكان المحليين وغياب تقييم بيئي مستقل.

 

ما البديل الاقتصادي؟ ولماذا يرفضه النظام؟

اقتصادياً، يطالب الخبراء بإصلاحات هيكلية؛ تعزيز الصادرات الصناعية، دعم الصناعة الصغيرة والمتوسطة، ضبط الإنفاق العام، وإصلاح نظام الضرائب ومحاربة الفساد.

نقد شائع أن حكومة الانقلاب تفضّل مشروعات رمزية ومبادرات استثمارية كبرى تُخفف الضغوط قصيرة الأجل بدل السياسات الصعبة التي تطال مصالح النخب العسكرية والاقتصادية.

التحالفات الخليجية توفر سيولة لكنها تقوّض الحافز لإصلاحات مؤلمة ومطلوبة.

 

تصريحات حماسة النظام مقابل هموم الشارع

حكومة الانقلاب تصف الصفقة بأنها إنقاذ اقتصادي واستثمار استراتيجي سيخلق وظائف ويزيد من احتياطات العملة الصعبة.

لكن بيانات الديون واحتياطات النقد الأجنبي، وتقارير المنظمات التحليلية، تُظهر أن الأزمة أعمق؛ دين عام مرتفع، عجز في الميزان التجاري، وحرج في سوق العملة أجبر السلطات على قبول شروط استثمارية قد تكون مكلفة على المدى الطويل.

هذه الفجوة بين خطاب الترويج ووقائع الأزمة تغذي رواية معارِضة ترى أن النظام يبيِع مقومات البلد للحفاظ على استمراريته.

 

صفقة أم بَيع؟

صفقة رأس الحكمة تُلخّص صراعاً واسعاً؛ بين حاجة النظام لسيولة سريعة للحفاظ على استقراره، وبين مصلحة الوطن في الحفاظ على أرضه وسيادته ومصدر قوته الاقتصادية.

الأرقام الكبيرة عشرات المليارات ومئات الكيلومترات المربعة لا تُبرِّر غياب الشفافية أو تجاهل البدائل الوطنية.

إن كانت الصفقة تُنقذ موازنة قصيرة الأجل، فهي أيضاً تفتح باباً واسعاً للتساؤل؛ هل تُعيد مصر نفوذها الاقتصادي أم تُحوّله؟ ومتى يدفع الشعب ثمن الإنقاذ؟