تحتفي الحكومة بإعلان تراجع “التضخم الأساسي” إلى 10.7% في أغسطس 2025 مقارنةً بـ22.6% في يناير، لتقدّم نفسها كصاحبة “قصة نجاح” في “كبح الأسعار” و”تحسين معيشة المواطنين”. غير أن هذا السرد المكرر ينهار أمام حقيقتين واضحتين: أولاهما أن المؤشر الذي تتباهى به الحكومة يستبعد تحديدًا ما يرهق الأسر من غذاء وطاقة، وثانيتهما أن البيانات الرسمية نفسها تُظهر استمرار ارتفاع تكاليف السكن والكهرباء والمرافق، إلى جانب التذبذب الشهري في أسعار الغذاء، بما يجعل الغلاء واقعًا يوميًا لا يبدده أي رقم على الورق. حتى البنك المركزي يعترف بأن “التضخم الأساسي” مجرد مؤشر مُنقّى من العناصر المتقلبة، لا يعكس الصورة الكاملة للضغوط المعيشية، فيما تُظهر النشرات الرسمية أن الأسعار ارتفعت شهريًا بنسبة 0.4% في أغسطس داخل التضخم العام بعد هبوط مؤقت في يوليو، ما يعني أن موجة الغلاء لم تنتهِ أبدًا، بل تعيد إنتاج نفسها داخل السلة السلعية والخدمية.
لماذا خطاب “التراجع” مضلل؟
المؤشر الذي تختاره الحكومة يخفي ما يوجع فعلًا: “التضخم الأساسي” يستبعد الغذاء والطاقة، بينما الغذاء هو الثقل الأكبر في ميزانيات الفقراء ومتوسطي الدخل، والطاقة بدورها تتسرب في كلفة كل سلعة وخدمة. لذا فإن تراجع هذا المؤشر لا يُثبت مطلقًا تحسن القدرة الشرائية للأغلبية التي تنفق معظم دخلها على الأكل والنقل والمرافق.
البيانات الرسمية نفسها تُفصح عن ارتفاعات شهرية في بنود معيشية أساسية: الجهاز المركزي للإحصاء سجّل في أغسطس زيادات في أسعار الخضروات ومنتجات الألبان والتبغ والأجهزة المنزلية، مع ارتفاع كلفة السكن والمرافق، وهي بنود لا يمكن لأي مؤشر “أساسي” أن يلغي أثرها على إنفاق الأسر.
أما التباهي الحكومي بتراجع النسبة السنوية فيحجب حقيقة المستوى السعري المرتفع أصلًا: فحتى لو تباطأت الزيادة، تبقى الأسعار المتراكمة عند مستويات قياسية، والمستهلك يدفع الآن “سعرًا جديدًا” أعلى بكثير من أي وقت مضى. والهبوط من 13.9% إلى 12% في التضخم العام لا يُعيد الأسعار إلى الوراء، ولا يخفف أعباء الإيجارات أو فواتير الكهرباء، ولا يعالج الديون التي أثقلت كاهل الأسر.
الأرقام التي لا تريدها الحكومة في الواجهة
البنك المركزي أعلن أن التضخم الأساسي انخفض إلى 10.7% في أغسطس بعد 11.6% في يوليو مع زيادة شهرية طفيفة 0.1%، لكن هذه قراءة تقنية بحتة لا تصف المعيشة اليومية، لأنها تستبعد عمدًا الغذاء والطاقة.
في المقابل، بلغ التضخم العام الحضري 12% في أغسطس، وارتفع المؤشر شهريًا 0.4% بعد تراجع يوليو، ما يعني أن الزحف السعري عاد داخل السلة الاستهلاكية الأوسع، وشمل قطاعات السكن والنقل وبعض السلع الغذائية والخدمية.
أما نشرات الإحصاء فتُظهر حركة متناقضة في الأسعار: زيادة في الخضروات والألبان والبيض والتبغ والأجهزة المنزلية، مقابل انخفاض طفيف في اللحوم والفاكهة، وهذه التقلبات لا تغيّر من الاتجاه العام للكلفة المعيشية التي تواصل الصعود مع رسوم وخدمات تثقل كاهل الأسر أكثر من أي وقت مضى.
“الفقر المحرِق” خلف الأرقام
السؤال الحقيقي ليس: هل انخفضت نسبة فنية في تقرير بيروقراطي؟ بل: هل تحسنت معيشة الناس؟ الواقع أن الأعباء الحقيقية اليوم تتجسد في السكن والمرافق والنقل والخدمات، وكلها مرتفعة وتواصل الزيادة السنوية، بينما يتآكل الدخل الحقيقي ويتسع الفقر.
هذا ما تؤكده بنود السكن والمرافق التي قفزت على أساس سنوي، لتجعل أي “تحسن” اسمي في مؤشر محدد بلا معنى أمام الجيوب الخاوية. من هنا تتواصل موجات الشكاوى الشعبية من الغلاء، لأن المؤشرات المنقّاة لا تدفع فواتير الكهرباء ولا تسدد رسوم الخدمات ولا تغطي إيجارات الشقق، ولا تعوض انهيار القوة الشرائية في سوق يغرق في الضرائب غير المباشرة وارتفاع تكاليف التشغيل.
حكومة التضليل
حين ترفع الحكومة شعار “تراجع التضخم”، فهي تتغافل عمدًا عن أن التضخم هو معدل تغير لا مستوى سعر، وأن أي تراجع نسبي لا يعني أن الأسعار انخفضت، بل أنها تواصل الصعود بوتيرة أبطأ. الدليل؟ الزيادة الشهرية في أغسطس داخل التضخم العام.
وحين تضع “التضخم الأساسي” في الواجهة، فهي تختار المؤشر الذي يُجمل الصورة سياسيًا لأنه يستبعد البنود الأكثر إيلامًا شعبيًا. لكن الناس يرون، لا الجداول، أن كلفة المعيشة لم تنخفض ولم تستقر بما يخفف الفقر أو ينعش القدرة الشرائية.
وأخيرا فما تسميه الحكومة “انتصارًا” على التضخم ليس سوى هندسة انتقائية للأرقام والمؤشرات، هدفها إظهار التحسن وتجاهل الحقيقة المعيشة. فالغلاء باقٍ، والمستوى السعري مرتفع، والزيادات الشهرية تعود لتقرص جيوب الفقراء، فيما تتفاقم تكاليف السكن والمرافق والضرائب غير المباشرة.
تبقى الشكوى الشعبية صادقة والإنكار الرسمي مكشوفًا. المطلوب ليس بيانات منقّاة تُكتب في المكاتب، بل سياسات تخفف كلفة الحياة وتوقف نزيف الدخل الحقيقي. وإلا فإن أي “تراجع” إحصائي سيظل مجرد خبر حكومي لا يُطعم خبزًا ولا يُطفئ نار الفقر.